يوسف أبولوز.. نزيل الجبّة والكتاب
الحياة قصيدة بالنسبة للشاعر يوسف أبولوز، الذي تنبثق قصيدته من لحظة أو إشارة أو لمحة، من الحاضر أو من الذاكرة. وترصد عين الشاعر التفاصيل الصغيرة التي لا يراها العابرون، وحتى لو رأوها فإنهم يلمسون سطحها، لكن عين أبولوز تنفذ في الحالات والطبيعة والطبائع والأشياء والظواهر في الحياة اليومية، كما تنفذ إلى خزينة الذكريات وزوادة المرجعيات في طفولته خصوصاً، علاوة على مرجعياته اللاحقة من خلال سفره في الجغرافيا والكتب والوجوه، جامعاً بين طبقات من الأزمنة في نص واحد. ويرى الحياة مثل «حليب مر» يمشي وراءها، كما يراها «صيداً»، في الوقت الذي يآخي شجرة ويحوّل عصا الأعمى إلى ناي. ويبدو أبولوز مثل «ناسك شعري»، يقول «وأنا نزيل اثنين دوماً: جبتي وكتابي».
شغف تشكيلي من خلال القصائد يمكن رصد شغف الشاعر أبولوز بالفن التشكيلي. يقول «علّتي في يدي/ إنني حين أكتب أنحت، أو/ حين أكتب أعزف/ من أين لي بثلاث مهن؟». وفي المجموعة أهدى قصائد إلى أربعة من أصدقائه الكتاب والفنانين، هم: نواف يونس، وعادل خزام، وثاني السويدي، وفايز مبيضين. كما أن الشاعر أبو لوز مهتم بسيرة الفنانين التشكيليين، وهو يرى علاقة قرابة بين الشعر والرسم. وقد أقيمت تجارب عدة في العالم والوطن العربي تجمع بين القصائد والالوان. غذاء اللغة
يوسف أبولوز الذي تهجرت عائلته من بئر السبع إثر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، يعد واحداً من أبرز الشعراء العرب، لكن تجربته الشعرية لم تجد ما يليق بها من الدراسات النقدية على المستوى العربي. وربما يعود ذلك لأسباب متعددة، من بينها أن الشاعر لا يأبه إلا بقصيدته، ولم يقع في فخ «شعراء العلاقات العامة»، الذين يروجون لأنفسهم، ويجاملون ويتقربون ويداهنون، من أجل «تلميع صورتهم» التي في الأساس هي باهتة. لقد ظل أبولوز نائياً عن ذلك، مكتفياً بنصه، حيث اللغة تبدو غذاء روحه، وفي الوقت نفسه صلصاله الذي يشكل فيه رؤاه الشعرية. كما يمكن الإشارة إلى «كسل نقدي» في الساحة العربية، إذ إن حركة النقد لاتزال غير مواكبة لنهر الإبداع، وظل نقاد كثر «رهائن لنجوم الشعر» والأسماء المكرسة. ويمكن القول أيضاً إن دور النشر العربية لاتزال غير قادرة على توزيع الكتاب بصورة حقيقية، إذ إن مخازن كثير من الناشرين لاتزال مكتظة بالكتب التي لم تصل إلى القرّاء. ويظل أبو لوز يكتب قلبه ووجعه وأسئلته، من دون انتظار أحد يتناول تجربته. لكن الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي التفتت إلى تجربة أبو لوز، وترجمت عدداً من قصائد إلى اللغة الإنجليزية ضمن موسوعة الشعر الفلسطيني. |
ويعد أبولوز الذي تهجرت عائلته من بئر السبع عام 1948، إثر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، من أبرز الشعراء العرب، إلا أن تجربته الشعرية منذ نهاية السبعينات حتى الآن لم تجد القراءات النقدية التي تليق بها على المستوى العربي، كما لم تحظ بالترجمة إلى لغات العالم.
يوسف أبولوز الحائز جائزة عرار الشعرية من رابطة الكتاب الأردنيين، يواصل انشغاله بالقصيدة، مستنداً إلى تجربة شعرية تمتد أكثر من 35 عاماً، وكانت مجموعتاه الصادرتان عام 1983، الأولى «صباح الكاتيوشا أيها المخيم»، والثانية «فاطمة تذهب مبكراً إلى حقول البامياء»، بمثابة الإعلان عن طاقة شعرية جديدة ومتوقدة وآسرة. وتمثلت تجليات الطاقة المتأججة لأبولوز الذي يمكن وصفه بأنه «كائن شعري»، في مجموعات لاحقة. وكانت مجموعته «نصوص الدم» 1991، عتبة إلى مجموعة «ضجر الذئب» 1995، التي ارتقى بها أبولوز عالياً، لتمثل مرحلة جديدة في تجربته، إذ تعد المجموعة تجلياً لروح شاعر كبير، كما أفصحت عن «روح الذئب» في شعرية أبولوز. وأعتقد أن تلك الروح تعود بالأساس إلى البيئة البدوية وتقاليدها التي عاشها الشاعر في طفولته، إذ كان وصف الذئب يطلق على الشجاع والفطن من الناس في البادية. وتعززت تلك الروح لدى الشاعر وفق مرجعياته الثقافية وحضور صورة الذئب في الشعر العربي. وواصل الشاعر في «خط الهزلاج» 2002، سيرته على وقع خطى ذئب رشيق وسريع.
وبعد اشتباك شعري دام أكثر من 15 عاماً، كان أبولوز يكتب خلالها على كل ما يتوافر لديه في اللحظة الأثيرية، فكانت قصائده مكتوبة بالحبر السائل على ورق ودفاتر وعلب تبغ وقصاصات، اخرج مجموعته السادسة «زوجة الملح»، التي تفتح باب التأويل متعدد الطبقات، بدءاً من غلافها، ليتساءل القارئ عن دلالات العنوان، فهل يشير الشاعر إلى الحياة، أم إلى الزواج بين الأرض والبحر، أم أن هناك إحالات أسطورية ثاوية في أعماق الشاعر، أم يشير إلى المزاوجة بين الشعر والنثر، خصوصاً أن المجموعة التي صدرت عن مجلة «دبي الثقافية» في أكتوبر الماضي تضم جزأين، هما «كتاب الصيد» و«كتاب النثر». وبالتأكيد ستتعدد القراءات للعنوان، مثلما تتعدد لقصائد المجموعة. ويقول أبولوز «زوّجت هذا الشعر من نجم قريب من يدي/ حتى إذا لوّحت لامرأة من الكلمات/ مسّت روحها روحي/ وغطّتها الصور».
ويمكن رصد مرجعيات عدة في قصائد المجموعة الجديدة، بدءاً من طفولة الشاعر التي تعد المرجعية الأولى لشعريته، إذ تتضافر فيها البيئتان البدوية والريفية، وتظهر تجليات مرجعية الطفولة والمكان وبيت العائلة في ما يمكن وصفه بشعرية «البداوة الريفية». وتتفتح قصائد المجموعة في تلك البيئة المزدوجة في جغرافيا جديدة، بعد التهجير القسري من فلسطين نتيجة للاحتلال. ولأن «الشعر أكثر نوع أدبي يتطلب خيالاً»، وفق هارولد بلوم في كتابه «فن قراءة الشعر»، فإن طفولة أبولوز كانت المختبر الأول لخياله الذي تأجج في فضاء الطبيعة، وكانت مشاهد الرعاة والغنم والماعز وأشجار التين والسماء متعددة الأمزجة والطيور والمنجل ومهباش القهوة والحصان والعشب، علاوة على التقاليد البدوية والحكايا الشعبية والتجوال في البراري، زوادة الخيال لدى الشاعر. وظهرت عناصر تلك البيئة في قصائد أبولوز، بدءاً بدلو الماء والحوش والمقلاع والنباتات البرية، ولم تغب الروح الليلية للذئب، إذ يقول أبولوز في فاتحة المجموعة «هالدنيا بلا صيد.. كآبة»، إذ يرى الحياة صيداً من أجل البهجة والقصائد والحب والحرية.
واللافت في قصائد المجموعة، وجود بؤر أساسية، تمثل إشارات لتتبع خطوط القصائد، ويمثل «البيت» أولى هذه العلامات، إذ تتردد مفردات «البيت والمنزل والدار والباب»، وتزداد هذه البؤرة اتساعاً في القصائد، مع ورود مفردات «البلاد والحديقة وأسماء قرى ومدن وأماكن»، ويظهر «البيت/ الوطن» بمثابة مركز المراكز في قصائد «زوجة الملح».
وتأتي مفردات «الطائر والجناح والريش»، مع مفردات تنتمي للفضاء الدلالي نفسه، مثل «السماء والسحاب والنجم والقمر والمجرة والنيازك والكوكب والغيوم والشمس والأعالي»، لتشكل كلها المركز الثاني في المجموعة. ويقول أبو لوز «رتّبي الليل تحت وسادتك الصوفِ/ كي تحلمي بالطيورِ/ وأمي تفسّر حلمك بعد الضحى/ بعد أن تسرح الطيرُ/ نامي منام الرضا/ ومنام العوافي». كما يقول «والسحاب يدور، ويهربُ/ تنهره جدتي بعصا التين».
يمثل «البيت» المستوى الأرضي الذي يرتبط بالوطن والسلام الداخلي المنشود والمكان الأثير الذي تتحقق فيه «أحلام اليقظة» والحرية الشخصية. في حين تمثل «السماء» المستوى الأثيري الذي يشير إلى الحلم بالطيران والانعتاق من قوى «الجاذبية الواقعية».
أما المركز الثالث في القصائد، فيتمثل بأثر الزمن في حياة الإنسان، ويظهر من خلال روح الشاعر المشحونة بالقلق، وهو يتأمل في «الموت والعمر والمرثاة والكهولة». يقول يوسف أبولوز في قصيدة «الحياة» عن هاجس العمر الراكض «كلما أتقدم في العمر/ أعرف أن حياتي ورائي/ فأبكي عليها». كما يرى الصبا «ابتعد الآن في جنة الأمس».
المركز الرابع في «زوجة الملح» يتضح في مفردات «القميص والثوب والمعطف والجبّة»، في إشارة إلى الجسد، كما أنها تستدعي قصة «قميص يوسف»، وتعزز هذه الصورة في استخدام متكرر لمفردة «البئر»، وكذلك «الأخوة»، والخيط الذي ينسجه الشاعر مع اسم «يوسف»، كما لو أنه يربط بين بئر السبع وبئر يوسف وبئر الشاعر وبئر الذاكرة. يقول أبولوز «أنا اثنان: يوسف في البئر، يوسف في البحر». كما يقول «أكلتك الحدآت/ وخمس نساء قطّعن أصابعهنّ وقطّعناك/ وقلبك هذا المفتوح على الدنيا.. قطعك». كما يقول «أمي الجميلة بنت هاشم/ والوسيطة بين أختيها، وأسمتني على اسم النبي».
في المجموعة يجمع الشاعر في بعض القصائد بين بحرين عروضيين، يختار لكل مقطع بحراً، ليغني التنوع الإيقاعي. ومن بينها قصيدة «علتي في يدي» التي يقول في مقطع منها «أركضْ في جسدي يا حبي/ دبَّ به كدبيب الحمى/ أحياناً/ يشفي علّلتنا سمّ الأفعى». ويقول في مقطع آخر «وأنا أتخطّى حياتي وأسبقها لأواخرها/ تاركاً كل مملكتي للوثن».