سميح القاسم.. حضرة الحلم لا تنتهي بغياب الجسد
لحق الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، أول من أمس، برفاق ذهبوا منذ سنوات، غاب عن 75 عاماً، و«كل عمر يطول بما فيه من ثمر.. وبلا ثمر كل عمر قصير»، كما قال الراحل الذي يعد واحداً من أعلام الشعر، وأناشيد المقاومة «المنتصبة القامة»، إذ مزج في كثير من قصائده بين جماليات الإبداع، ودور الشاعر المحرّض.
أبومازن: كرّس حياته مدافعاً عن الأرض
نعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر الراحل سميح القاسم. ونقلت عنه الوكالة الفلسطينية قوله: «الشاعر القاسم صاحب الصوت الوطني الشامخ رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، والذي كرس جلّ حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض». شطرا برتقالة
كان الراحل سميح القاسم يشكل مع الراحل محمود درويش جناحي طائر، ووصفا بأنهما شطرا البرتقالة. وفي منتصف الثمانينات تبودلت بينهما رسائل نشرت أسبوعياً، ثم جمعت في كتاب (الرسائل) الذي يعد من عيون النثر العربي. كان القاسم في فلسطين ودرويش في باريس، وكتب له في ختام إحدى الرسائل «أرى وجهاً للحرية محاطاً بغصني زيتون... أراه طالعاً من حجر. أخوك محمود درويش: باريس 5 أغسطس 1986». وخاطبه درويش في قصيدة يقول في بعض سطورها «أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟ إذن كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟ سؤالي غلط.. لأن جروحي صحيحة.. ونطقي صحيح.. وحبري صحيح.. وروحي فضيحة. أما كان من حقنا أن نكرس للخيل بعض القصائد قبل انتحار القريحة؟ سؤالي غلط.. لأني نمط.. وبعد دقائق أشرب نخبي ونخبك من أجل عام سعيد جديد جديد». |
غاب القاسم و«حضرة الحلم لا تنتهي بغياب الجسد»، كما قال راثياً رفاقه الذين سبقوه إلى الضفة الأخرى، غاب بعد صراع مع سرطان الكبد الذي أصيب به قبل نحو ثلاث سنوات.
ولد القاسم في مدينة الزرقاء الأردنية في 11 مايو عام 1939 لعائلة فلسطينية من قرية الرامة القريبة من مدينة عكا في شمال فلسطين. وأصدر القاسم في مدينة الناصرة عام 1958 ديوانه الأول (مواكب الشمس) ويضم قصائده الأولى، ومعظمها موزون ومقفى ويغلب عليها الطابع الحماسي. ويبدأ الديوان بالقصيدة التي جعلها القاسم عنواناً للديوان وتقول أبياتها الثلاثة:
«فجر الشعوب أطل اليوم مبتسماً.. فسوف نغسل عن آفاقنا الظلما.. مواكب الشمس قد مارت محطمة.. ظلام ليل على أيامنا جثما.. ونحن سرنا بها والحق رائدنا.. والشمس أضحت لنا في زحفنا علما».
وسُجن القاسم أكثر من مرة، كما وضع رهن الإقامة الجبرية، وتعرض للكثير من التضييق بسبب قصائده الشعرية، ومنها «تقدموا» التي اعتبرت تحريضاً ضد الاحتلال، وتسببت في أزمة داخل إسرائيل بعد تحولها إلى ما يشبه البيان الشعري - السياسي. ومنها: «تقدموا.. تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم.. تقدموا.. يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلم.. وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم. تقدموا.. بناقلات جندكم وراجمات حقدكم وهددوا.. وشردوا.. ويتّموا.. وهدموا.. لن تكسروا أعماقنا.. لن تهزموا أشواقنا.. نحن قضاء مبرم».
وللقاسم قصائد حظيت بشهرة في عموم العالم العربي، ومنها «منتصب القامة أمشي» التي غناها الفنان اللبناني مرسيل خليفة، وتحولت إلى ما يشبه النشيد الشعبي الفلسطيني، إذ يقول فيها: «منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون.. وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي.. قلبي قمر أحمر.. قلبي بستان فيه العوسج.. فيه الريحان.. شفتاي سماء تمطر ناراً حينا.. حباً أحيان. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. وأنا أمشي وأنا أمشي».
بينما يقول في قصيدة بيان عن واقع الحال مع الغزاة الذين لا يقرأون:
«يا أيها الآتون من عذابكم.. لا. لا تعدو العشرة.. وغازلوا قاذفة.. وعاشروا مدمرة.. خذوا دمي حبراً لكم.. ودبجوا قصائد المديح في المذابح المظفرة.. وسمموا السنابل.. وهدموا المنازل.. وأطبقوا النار على فراشة السلام.. وكسروا العظام.. وكسروا العظام.. لا بأس أن تصير مزهرية عظامنا المكسرة.. من أوصد السحر على قلوبكم؟ من كدس الألغاز في دروبكم؟ من أرشد النصل إلى دمائنا؟ من دل أشباح الأساطير على أسمائنا؟».
وحظي القاسم بتقدير المثقفين في العالم العربي وخارجه، ونال كثيراً من الجوائز من إسبانيا وفرنسا وفلسطين. وآخر تكريماته حصوله عام 2006 من القاهرة على جائزة نجيب محفوظ التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وتنشر قصائد القاسم بصوته على القنوات العربية والفلسطينية، خصوصاً هذه الأيام إثر الهجوم على غزة.
اتحاد كتّاب الإمارات: الراحل يمثل قيم الحق والجمال والإبداع
نعى اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الشاعر سميح القاسم الذي رحل عن دنيانا مخلّفاً وراءه تجربة تعد من أهم التجارب الإبداعية العربية، وأغناها وأكثرها عمقاً ودلالة في العقود الأخيرة. وقال الاتحاد في بيان، إن «سميح القاسم يمثل قيم الحق والجمال والإبداع في مواجهة العدوان والعنف الأعمى وتزوير الحقائق وقهر إرادات البشر واستلاب حقوقهم، كما كان واحداً ممن حموا بإبداعاتهم قضية الأمة، وجعلوها جزءاً من الوجدان الإنساني الأصيل، مستخدمين سلاح الكلمة وحدها، بما تمتلكه من طاقات وإمكانات عظيمة».
كما أرسل حبيب الصايغ، رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، برقية تعزية إلى الشاعر الفلسطيني مراد السوداني، الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، عبر فيها باسمه شخصياً، وباسم أعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات عن حزنه العميق لرحيل القاسم.
وجاء في البرقية إن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات إذ يعزي اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين برحيل القاسم فإنما يعزي نفسه أيضاً، فرحيل القاسم خسارة للوسط الثقافي العربي كله، وغيابه يعنينا جميعاً لما يمثله الراحل الكبير من قيم الانتماء والتعلق بمبادئ الحق والعدل والجمال، مما تمس حاجتنا إليه في هذه المرحلة بالذات. وأضاف «لقد كان القاسم واحداً ممن شكلوا وعينا، وأثروا وجداننا، وأضاؤوا عقولنا وقلوبنا. ولأننا ندرك جيداً الرسالة التي أداها القاسم خلال حياته، فإن مشاعرنا بعد رحيله لن تقتصر على الألم، بل تتجاوزه إلى الأمل والثقة بالمستقبل، فالقاسم لن يكون شخصاً عابراً في الحياة، لأن روحه ستتمثل في آخرين من المبدعين العرب سيكملون الطريق إلى آخره، حيث الانتصار الأكيد لقضية شعبنا».