الفيلم يفتقد إلى الحدوتة الواحدة، بل يعتمد الفكرة الأساسية ضمن مشاهد روائية تجمعها فكرة الغربة، غربة المثقف. من المصدر

قاسم حول: أقرأ وأحلم بتاريخ ثقافتنا

فيلم «بغداد خارج بغداد» روائي طويل يفتقد إلى الحدوتة الواحدة، بل يعتمد الفكرة الأساسية ضمن مشاهد روائية تجمعها فكرة الغربة، غربة المثقف. والتجربة خاضها السينمائي العراقي، قاسم حول، في ظروف إنتاج سينمائية عراقية صعبة جداً، تكمن صعوباتها في صعوبات البلد الأمنية وعدم توافر الاستقرار وكثرة التفجيرات ومنع الفنون والموسيقى، بتوجهات وسيادة تيارات ذات فهم سلفي للفن والثقافة. لكنه على ما يبدو خرج بتجربة مثيرة حقاً وتستحق الانتباه.

استراحة

كل مخرج ما أن ينهي فيلماً حتى تدهمه الأفكار متسارعة نحو فيلم آخر.. لكن الاستراحة ضرورية، فهي تعطي فرصة لاستيعاب التجربة والاستفادة منها في الحلم الذي يليها. أدعو كل عشاق السينما الحقيقيين لمشاهدة تجربة فيلم «بغداد خارج بغداد»، الفيلم فيه شيء من الحزن ولكنه حزن الشاعر، ممكن عند مشاهدة الفيلم أن نذرف دموعاً ونحن نبتسم.

فن مستورد

قال السينمائي العراقي، قاسم حول، إن الفن السينمائي فن مستورد لم نحققه نحن، وكان ينبغي أن نبدع فيه، لقد تمكن تقنيون عرب من فهم المهنة من المصورين ومهندسي الصوت ومصممي الإضاءة، لكن لا المخرج ولا الممثل العربي يبذلان الجهد الفني المطلوب وصولاً إلى القياسية في الأداء والبناء الدرامي، يأتي ذلك مع غياب المنتج السينمائي العربي.

هذا ما سبب لي الملل من صيغة الفيلم العربي وحكاياته المتشابهة، خطرت لي فكرة أعانيها في حياتي الثقافية وهي الغربة التي عشناها في الوطن أكثر مما نعيشها في المنفى. ففكرت أن أجسد هذه الغربة وهذا الاغتراب. فكتبت سيناريو بسيطاً بحوار أنيق لأجسد فكرة الغربة من خلال بضع حكايات عاشها مثقفون عراقيون في تاريخنا الثقافي في العراق. قلت لأدخل عالم التجريب.. لعل وعسى. وعندما وضعت المادة المصورة أمامي على طاولة المونتاج، وجدت أن بين يدي مادة جميلة وثرية في سبر عمق الواقع الثقافي العراقي، ووفق السيناريو المعد صرت أبني المشاهد، وإذا بي أمام فيلم واضح الرؤية وبسيط وجميل، وحقيقة استهواني وأنا المشاهد الموضوعي الأول لأفلامي، أقول المشاهد الموضوعي الأول لأن عندي فيلماً أيضاً جميلاً أخرجته عام 1992، لكن عندي عليه ملاحظات وهو فيلم روائي طويل. فيه مشاهد مهمة ومتقنة ولكني لم أحسن بناءه، وللآن لم أعرضه ولم أقدمه.

ممثل

قال قاسم حول «أنا ممثل وأحب التمثيل وأعجبتني شخصية (جعفر لقلق زادة) في حكايات الفيلم وقررت أن ألعبها، نعم لقد لعبت شخصية جعفر لقلق زادة وهو يسلي رواد (التياترو) في العهد العثماني وما بعده. التمثيل شيء جميل ولكنه فن صعب، أقصد التمثيل وليس ذاك الذي نراه في السينما العربية، وبشكل أكثر تسطيحاً في التلفزيونات العربية، وفضائيات الربيع العربي.

وفي غياب التقنيات العراقية، سوى بشكل محدود، على المخرج السينمائي لو أراد أن يستعمل التقنيات الحديثة والمتطورة في التصوير، فإنه تصعب عليه مواصلة العمليات اللاحقة التقنية والفنية. كل شيء محفوف بالمخاطر، في هذا الحوار يكشف لنا المخرج والروائي العراقي، قاسم حول، هذه التجربة العميقة في مدلولاتها الحسية والتقنية التي عاشها لحظاتها في بغداد.

وقال قاسم حول لـ«الإمارات اليوم»: «يكاد العنوان يوحي بالوثائقية، وهي وثائقية ذات نهج روائي يتسم بالجمالية العالية والفكر الواضح حيث الواقع ألقى بظلاله على حياة فنانين ومبدعين كبار وذوي مشاعر متقدة، فكرة الفيلم هي الغربة الوجودية، المثقف الواعي الجميل هو معاناة غربة وخوف لرهافة الحس».

وأضاف «أردت وأنا أقرأ وأحلم بتاريخ ثقافتنا التي عاصرت جانباً منها وصرت شاهداً ومنتجاً في خضمها، أردت أن أصور جانباً منها، وأن أجسده على الشاشة، كنت أعرف أن الميزانية المرصودة لهذا الفيلم لا تتناسب وحجم الفكرة وحجم الزمن وتاريخ الحدث، فهو فيلم ليس معاصراً بالمعنى المعاصر للأحداث والأمكنة، فهو يبدأ من غربة جلجامش وخوفه وينتهي بغربة الإمام الحسين مروراً بكل الذين تمردوا على واقعهم. أليس مثيراً أن يعرف الناس اليوم وهم يعيشون هذا الزخم الفضائي كيف شاهد العراقيون الصورة المتحركة. كيف دخلت السينما العراق أو كيف سمع العراقيون الصوت، صوت الأغنية على الحاكي. من كان يسجل أغاني العراقيين؟ من (الجق مق جي) الذي كان يعتقد العراقيون أن اسمه (جقمقجي)؟ من مسعود عمارتلي؟ ومن جعفر لقلق زادة؟ ماذا حصل لكل العراقيين المبدعين؟ لماذا ماتوا في منافيهم وأين سنكون؟ في أي درب نحن سائرون. هي أسئلة ستجيب عنها حكايات صورتها ونفذتها بطريقة شيقة وجميلة جداً وإنسانية، وهي مثل التراجيديا الإبداعية، أي تراجيديا مشوبة بالشاعرية والابتسامة الحلوة والمرة.. فيلم حقيقة يشاهد بتشوق».

وأوضح حول «لقد صورت بأعلى قيمة فنية للصورة وبأحدث كاميرا تم استيرادها خصيصاً لفيلمي. وبالتأكيد كان الجانب المادي كالعادة فقيراً، وكان علي أن أحقق أعلى مستوى أستطيعه. كانت رغبة الممثلين عارمة في تحقيق الفيلم، ولذا جاء التعاون معي مشجعاً وأنا أشكر كل من عمل معي في هذا الفيلم من الممثلين والتقنيين والفنيين. وحين أنهيت التصوير بات علي أن أعوض «بعض الفقر» التقني بالغنى الفني والتقني المتوافر في أوروبا. وهذا ما ساعد الفيلم كثيراً كي أخرج به بحصيلة تقنية عالية ساعدت كثيراً، ودعمت القيمة الفكرية والأدائية للممثلين. وأظن أن الفيلم جاء جميلاً ويستحق المشاهدة، فهو ممتع حقاً على أكثر من صعيد. وهو تجربة تستحق التأمل وتستحق الوقوف أمامها.

واعتبر حول أن المهرجانات السينمائية العربية ظاهرة مهمة وحضارية، وهي في حقيقة الأمر فرصة أمام الفيلم العربي وأمام السينمائي العربي بعد أن انحسرت فرص العروض في مؤسسات الثقافة العربية، وكذا فرص العروض التجارية، حتى بات الفيلم لا يحظى أحياناً ببضع عشرات من المشاهدين نتيجة الأوضاع الأمنية السائدة في المنطقة العربية. وبسبب انعدام فرص العروض الطبيعية للأفلام السينمائية يصبح حتى الإنتاج السينمائي عملية عسيرة وصعبة، فالبلدان العربية لا تريد أن تسلك سلوكاً حضارياً في فهم عملية الإنتاج السينمائي، المتمثلة في أن الدولة لا ينبغي عليها الإنتاج، إذ لا يجوز أن تتحول الدولة إلى دولة منتجة للثقافة، بل أن تكون داعمة لها. لكن بعض البلدان لاتزال تعيش الفكرة الشمولية المتمثلة في الهيمنة على الفكر والثقافة. هذه البلدان لا تؤسس الثقافة التي تمثل هوية الوطن. وهذه البلدان لا تريد في الوقت ذاته بناء القاعدة المادية للإنتاج خوفاً من الثقافة، ودورها في بناء المجتمع بما يتناقض والفكر الغيبي الذي بدأ يسود المنطقة العربية. وهذا أمر مؤسف للغاية، من هنا أيضاً تأتي أهمية المهرجانات السينمائية العربية في أن تشكل النافذة الثقافية الرحبة للمخرج السينمائي والمؤلف السينمائي والمبدع السينمائي.

وأشار حول إلى أنه يتطلع إلى عرض فيلمه في مهرجان أبوظبي السينمائي، خصوصاً أن هذا المهرجان قد أخذ مكاناً حيوياً في المهرجانات السينمائية العالمية، وكذلك لدي طموح في عرضه في مهرجان دبي السينمائي الذي بات رقماً مهماً في المهرجانات العالمية.

وقال حول «هناك أفلام عالمية عملاقة لاتزال تستهويني وتسحرني، وهي أفلام ذات بناء كلاسيكي أكاديمي ومبنية على أساس الحدوتة والقصة والرواية، ومنها روايات خالدة في تاريخ الأدب. وهذه الأفلام مصنوعة بشكل عبقري وتعلمنا منها ولا نزال نتعلم منها. سينما فيها ممثلون مدهشون. نجوم إبداع وليسوا نجوم دعايات. أفلام ذات سيناريوهات محكمة ورصينة تسحر المشاهدين، وأداء للممثلين يخلب الألباب. ولكن هذه السينما انتهت ولم يعد لها وجود، وفرضت صيغة العالم الجديد أفلام العنف وأفلام الحركة وأفلام الحيل السينمائية غير المقنعة والمزيفة والقائمة على المؤثر والموسيقى وإشغال العين والذهن بما يتعبهما. ولأن تلك السينما العالمية انتهت ولأن السينما العربية هي بالأساس هزيلة ولم تتمكن من تحقيق هويتها الثقافية والفكرية، وهي بالنسبة لي مجرد كلام فارغ ولهو لا معنى له، فكل محاولات السينمائيين لم تحقق شيئاً على الإطلاق وهو ادعاء محض ولا أدرجه سوى في خانة المحاولات. هذه حقيقة وأنا أتحدث كمشاهد واعٍ لقيم المشاهدة. لم أكن أتمنى ذلك، سيما أن بين العرب ممثلين مبدعين، وأفرزت السينما العربية عدداً جيداً من المصورين ومهندسي الصوت وتقنيي المونتاج، لكن هناك غياباً للمنتج بالأساس»، معتبراً أن العملية الإبداعية تحتاج إلى شروط عمل صحيحة وموضوعية، ولاشك أن عدم الاستقرار وسيادة الجهل وعدم المعرفة، كل هذه أسباب حالت دون نضج الفيلم العربي، بالنسبة لي فيلم أميركي واحد كابوي يعادل كل الأفلام العربية في تقنيته وبناء السيناريو فيه وفي تصويره وفي توليفه وفي دقة أداء ممثليه.

الأكثر مشاركة