«المُدَّعون».. واقع يومي بشخصيات هزلية

بدا الجو العام المسيطر على أعمال الفنان برنارد بوهمان ليس بعيداً عن العنوان الذي أطلق على المعرض وهو «المدعون»، حيث لجأ الفنان النمساوي من خلال هذا العنوان إلى رصد الناس بأشكال هزلية، متعمداً الأسلوب النقدي بتضخيم السخرية من الواقع. ويبني بوهمان لوحاته، في المعرض الذي افتتح أخيراً في غاليري كاربون 12 بدبي، ويستمر حتى 28 الجاري، من خلال الشخصيات التي يبتكرها من عوالم مختلفة، فتكون كل شخصية منفصلة عن الأخرى وغير مشابهة تماماً ليوجد مساحة من عالمين متناقضين، وهما الفرح والسوداوية.

 

سيرة فنية

ولد الفنان برنارد بوهمان في النمسا عام 1979، ويقيم ويعمل في فيينا. درس الفن في جامعة الفنون التطبيقية مع أدولف فروهنر بين 2003 و2005، ثم تابع مع جهنا كندل بين عامي 2005 و2010، حتى حاز الدبلوم. كما درس بوهمان علم الاجتماع وعلوم التواصل، وحاز الدراسات العليا في هذا المجال عام 2006. يعمل بوهمان على لوحاته كما لو أنه يستمتع بلعبة ما، فيجمع في عمله بين المرح والقضية الاجتماعية، التي يحب أن تحافظ على وجودها في عمله. قدم بوهمان العديد من المعارض الجماعية والفردية، واقتنت أعماله مجموعة من المتاحف، منها متحف الفنانين الشباب في النمسا، ومتحف صلصالي في دبي. أما الجوائز الفنية فقد حصل على أكثر من جائزة، كانت آخرها جائزة الفنان المقيم في مالوركا.

طبيعة

تعد الطبيعة، التي أحاطت برنارد بوهمان منذ الطفولة، من العوامل التي أثرت في فنه بشكل واضح، فكان يتعمد إدخالها إلى أعماله بشكل مباشر، بينما يبدو اليوم تأثره بها من خلال الألوان أكثر وضوحاً وتجلياً. كانت الطبيعة وكذلك الناس هم المحرك الأساسي للوحة بوهمان، لكنهم بدأوا يتغيرون مع الوقت. أما والدته فكانت هي التي شجعته على دخول الفن، إذ كانت رسامة، وكان منذ صغره يجلس بالقرب منها ليتعلم الرسم، فترسَّخ بداخله حبه للفن والألوان.

صور الناس أو التصوير الشخصي، وما عرف أخيراً بـ«السِلفي»، هو المسألة التي انطلق منها المعرض، فتغيير الوجوه كما تغيير الملابس. وكم مرة من الممكن أن يبدل الناس هذه الصور، وهل تفصح الصور عن شخصية حقيقية أم أنها مجرد أقنعة يتخفى وراءها الوجه الحقيقي. كيف ينظر البعض إلينا، وإلى أي مدى يمكننا التغيير في هذه النظرة؟ وما الأثمان التي ندفعها مقابل ذلك؟ هذه الأسئلة كانت المحرك الأساسي لأعمال بوهمان التي تخلى من خلالها عن الطبيعة، ليرسم مساراً مغايراً عن معرضه السابق في دبي، والذي كان بعنوان «المكان مختلف.. الوقت ذاته». حيث تبدو لوحات بوهمان الآن أكثر نضجاً وأكثر التصاقاً مع الحياة اليومية للناس.

يصور بوهمان عوالم متعددة، من خلال الشخصيات التي تسكن لوحاته، حيث إنه بالنظر إلى اللوحة تبدو كل شخصية منفصلة عن الأخرى، بينما إن نظرنا إلى الأعمال ككل يبدو لنا أننا أمام قضية في سياق أوسع وأشمل. يبدو أن الفنان النمساوي شديد الاتصال بالواقع المجتمعي ودراسته لعلم الاجتماع، فيكرس دراسته تلك إلى جانب دراسته للفنون لطرح الأسئلة، من خلال اللوحات؛ فيتطرق في أعماله إلى المظهر العام، حيث يبدو الأخير العنصر الأكبر الذي يعمل عليه الفنان، فيصوره كما لو أنه الشغل الشاغل لهم، وكما لو أنهم يتقوقعون داخل المظهر الذين يسعون إلى الحفاظ عليه بأي شكل ممكن أمام الآخرين.

تحمل لوحات بوهمان طفولة طاغية، يسلب فيها المشاهد عبر الملابس الشبيهة بملابس المهرجين، وكذلك حركاتهم التي تجعلك تنغمس في طفولة متعددة الألوان. هذه الطفولة التي يترجمها بوهمان عبر اللون، تجد سبيلها للواقع من خلال حركات جسدية أساسية في حركة أجسام الشخصيات التي يقدمها. وعلى الرغم من الإطار المزركش للوحات إلا أن هذا لا يجعل الشخوص في أعمال الفنان النمساوي، متفائلة أو من عالم فرح، كما أنها لا تحمل سوداوية مطلقة، فهي تارة تبدو خفيفة وتارة تبدو ثقيلة، ترتبط إلى حد بعيد بالمتلقي الذي يسقط عليها شعوره، فيقيم الفنان مع المتلقي علاقة متينة من خلال الشخصيات التي يجعلها قابلة لتقبل الاحتمالات المتعددة، من الهزلية والفرح والسخرية واللهو واللعب، إلى الجد والحزن والكآبة والضجر، وهذه الاحتمالات هي ببساطة ترجمة لحالات واقعية.

يستخدم بوهمان السيريالية في التعبير، معتمداً على خلفيته الأكاديمية في علم الاجتماع، لتكوين هذا البحث الذي يقوم به الفرد للبحث عن ذاته، وكذلك عن حياته الاجتماعية، في ظل التغييرات التي تطال المجتمع، وفي ظل حالة من عدم الاستقرار المحيطة. يبني اللوحة والأطفال الذين يرسمهم، كما لو أنه يبني صورة مصغرة عن المجتمع، فالشخصيات تبدو متميزة في الشكل الذي تبدو في حالة بحث مستمر عنه، فهي غير مكتملة أو ليست نهائية. لكنها تمثل الأدوار التي نحاول أن نلعبها في حياتنا للمجتمع، والتي يجب أن نقوم بها بشكل كامل ومتميز. هذه الأدوار التي تفرض علينا من المحيط، بغض النظر عن مدى الصواب أو الخطأ أو حتى ملاءمتها لنمط حياتنا واختياراتنا، ينقلنا بوهمان من خلالها من الواقع المرح والهزلي إلى حقيقة تراجيدية بحتة تتفشى في المجتمع المعاصر الذي نعيش فيه، وكل ما تحكمه من أدوات ووسائل تواصل وتكنولوجيا مخيفة.

هل البحث عن الكمال هو ما يسيطر علينا اليوم؟ هذا المفهوم يتجسد في محاولة لتضمين أعمال بوهمان الكثير من العوامل التي يسلط فيها الضوء على مفهوم الإنسان للحياة والانسانية بحد ذاتها وكذلك الكمال. نجده يدرك أنه يطرح العديد من الأسئلة من وجهة نظره الخاصة على المجتمع المعاصر، بأدواته المعاصرة ورؤيته الخاصة، فهو شديد الحرص على عدم وضع لوحته في خانة ثابتة ومحددة، وهذا ما يجعل شخصياته غير محددة المعالم وغريبة، وكذلك مدموجة مع أعضاء كائنات أخرى تضفي عليها العنصر الخيالي.

الأكثر مشاركة