«جروح».. درامـا تلفزيونية على الخشبة
هل قدّم الكاتب نص «جروح» مكتوباً بلغة تلفزيونية إلى مخرج العمل، فلم يستطع الأخير إخضاعه لهيمنة أبو الفنون، أم أن المخرج هو من تصرّف على نحو جعل جمهور الليلة الخامسة من ليالي الدورة الأولى لمهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، يشعرون بأنهم يتابعون دراما تلفزيونية، من سهرة واحدة، وليس عملاً مسرحياً؟
عبدالله مسعود: بكيت مرتين قال الفنان الإماراتي عبدالله مسعود، الذي أدار الندوة التطبيقية لـ«جروح» معلقاً على الدفقة الرومانسية الهائلة بالعمل: «بكيت مرتين أثناء مشاركتي في تمثيل هذا العمل، الذي عرض من سنوات عدة بالشارقة باسم (بقايا جروح)». وأدار مسعود الندوة بشكل هادئ، في غياب أول للفنان طارق العلي، الذي كان محوراً مزعجاً لمديري الندوات في الأيام السابقة، بسبب مداخلاته الفجائية، لكن مسعود أفسح المجال أمام المتداخلين في الإسهاب، ما أدى إلى أن بعضهم حوّل مداخلته إلى ما يشبه كلمة، أو ندوة، خصوصاً الدكتور البحريني يوسف الحمدان، الذي تطرّق إلى أكثر من ثماني تفصيلات مختلفة في «مداخلته». بين «جروح».. و«بقايا جروح» على الرغم من أن «جروح» تعد جديدة بالنسية لفرقة أوال البحرينية، وهو أحد شروط المشاركة في مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، فإن العمل لا يعدّ كذلك بالنسبة للمشاهد الإماراتي، الذي سبق وأن تابع النص ذاته، ولكن تحت اسم آخر، إذ أنتجه عام 2005 مسرح رأس الخيمة الوطني، من إخراج ناجي الحاي. وإذا كانت مشاركة البحرين بكل ما تزخر به هذه الدولة الرائدة في المسرح الخليجي، بمسيرة بدأت قبل أكثر من 80 عاماً، لم تستطع الوصول إلى نص جيد يتوّج مشاركتها في الدورة الأولى للمهرجان، واضطرت إلى الاستعانة بنص للكاتب إسماعيل عبدالله، سبق تقديمه بالأساس، فإن الأولى هنا الالتفات إلى إشكالية غياب النص المبدع، وتحوّله إلى عملة صعبة، ونادرة في المسرح الخليجي. |
هذا هو السؤال الجوهري في عرض، أول من أمس، الذي قدمته فرقة مسرح أوال البحرينية، ممثلة بلدها في المسابقة الرسمية للمهرجان المقام برعاية صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وتنظمة دائرة الثقافة والفنون، وتختتم فعالياته اليوم في قصر الثقافة بالشارقة.
هذه السيادة التلفزيونية رغم ذلك لم تفسد العرض، الذي شهد التحاماً كبيراً بين الخشبة والجمهور، يجعل الراصد للمهرجان، أنه إلى جانب عرض الافتتاح الكويتي، يشكلان العرض الأكثر نضجاً بين عروض المهرجان، حتى الآن، وقبل ليلة واحدة من العرض الإماراتي «لا تقصص رؤياك».
استطاع العمل أن يحتفظ بجمهوره رغم طول فترة عرضه، في سهرة شهدت حضوراً كثيفاً اضطرت إدارة المسرح معها إلى فتح أبواب المشاهدة في الطابق الثاني، ما يعني أن «جروح» بالفعل من الأعمال التي ساعدت في ترجمة إحدى مقولات راعي المهرجان صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي :«المسرح قلب المدينة النابض».
العمل الذي كتب نصّه الفنان الإماراتي إسماعيل عبدالله، وأخرجه عبدالله سويد، ومن بطولة شفيقة يوسف وإبراهيم الغانم وعادل شمس وأحمد مجلي وشذى سبت وسودابة خليفة، تطرق إلى مأساة امرأة تتعرض لمحاولة اغتصاب، في كل شيء، جسدي من قطّاع طرق، ومعنوي من زوجها وابنها، اللذين يروّجان لشائعات مجونها، ويطمعان في الوقت ذاته في ميراثها، عبر تقنية «الاسترجاع الزمني»، حيث لم تتكشف الحكاية التي بدأت كحلم، سوى في نهايات العمل.
لم يكن «الاسترجاع الزمني» هو العنصر الذي أسهم في التداخل بين فنون العرض المسرحي والتلفزيوني، بقدر ما أسهمت في ذلك آلية توظيف سويد، لهذه التقنية، لدرجة أن المخرج اختار في بعض المرات أن يستدعي شاشة العرض ذاتها، من أجل النبش في ذاكرة الحكاية، بل كان العنصر الأكبر في ذلك عائداً إلى نهايات المشاهد، التي لم تكن متداخلة ومستمرة وممتدة بالشكل المسرحي، بل كانت مقطوعة ومبتورة ومنفصلة، وكأننا أمام تصوير مشاهد طالتها أيادي فنيي «المونتاج».
وجاء النص كذلك فضفاضاً مطولاً ومسهباً، وبشكل تدريجي سحب أداء الممثلين وصبغه بتقاليد التمثيل التلفزيوني، لدرجة أن «جروح»، التي يوحي عنوانها بأنها يجب أن تكون مقتضبة ومكثفة بتكثيف آلام «الجروح»، هي أطول الأعمال التي تم عرضها حتى الآن من حيث المعيار الزمني، إذ شارفت على نحو 75 دقيقة تقريباً، لكنها إطالة رغم ذلك لم تكن مملة، بالنسبة للجمهور، بسبب هذه الدفقة الإنسانية الهائلة التي حكمتها الحكاية، وأجاد الممثلون في تلقفها، واستثمارها من حيث الأداء.
الديكور كان أحد مكامن القوة في عرض «جروح»، وأضفى بُعداً معضداً للمحتوى الدرامي، من خلال هذا الفضاء الذي أتاحه لحركة الممثلين على الخشبة، في مقابل غرفة السيدة محور الحكاية، التي قبعت فيها طويلاً وجاءت بمثابة سجن معنوي لها، وهو الإحساس الذي دعمه نمط الديكور الذي جعلها بالفعل أشبه بسجن منعزل، عن سائر فضاءات المكان، في حين حملت الجدران صورة باهتة لملامح امرأة، وكأنها رسالة بأن الأحداث «الحلم» سيظل لها تفاصيل، سواء في «الذاكرة» الماضوية أو «الخيال» المفضي إلى الأفق المستقبلي.
الإضاءة لم تسر على وتيرة واحدة من الإجادة، فما بين معايشة للأجواء النفسية المتبدلة للسيدة، بكل تحولاتها، من إبحار في الهموم، ومصارعة للزوج، وحسرة على الابن، ودفاع عن الشرف الذي اتهمت فيه، ولوعة على صغير طاح في قدر الطعام وهلك، بعد أن اتهمت بحمله سفاحاً من عشيق اختارت لوليدها اسمه «سند»، على الرغم من أن هذا الاسم يعود للرجل الشهم الذي أنقذها وأباها من براثن قطّاع الطرق، إلى إضاءة مباشرة تتسلط على رتابة حركة الممثلين على المسرح.
يحمل العمل قدراً كبيراً من الرومانسية استطاع أن يشد المشاهد منذ البداية حتى النهاية، على الرغم من التطويل والمطّ، ما يعني أننا أمام نص جيد أولاً، ومخرج يمتلك أدواته الفنية ثانياً، لكنه لم يوظف تلك الأدوات بشكل كامل لخدمة «عرض مسرحي»، بقدر ما سعى عبرها إلى الوصول إلى «جماليات» عرض، أي عرض، حتى وإن كان ذلك على حساب خصوصية العرض المسرحي، وأبرز معالمه التكثيف، والصورة الحية، وهو ما يبرر وقوعه كثيراً في أسر «الحكاية» و«الإخبار»، بدلاً عن المشاهدة، التي تحييها أداء الممثلين للمواقف. لذلك لم يكن متصوراً أن يفاجئنا سويد برؤية إخراجية غير تقليدية تكسر هذه الحالة التقليدية التي بدا عليها «جروح»، على الرغم من أنه لو فعل ذلك لكان قد قدم لنا عملاً استثنائياً يحمل الخصوصية البحرينية من حيث اللهجة، ويستثمر الدفق الرومانسي الهائل في النص، الذي اقترب في بعض مفاصله من اللغة الشاعرية.