أشرطة المتطرفين.. حرب نفسية على «ضحايا الصورة»
أشرطة الفيديو، التي تبثها الجماعات المتطرفة بين الحين والآخر، خصوصاً تنظيم «داعش» أصبحت حديث العالم، خصوصاً بعد فيديوهات حرق الشهيد الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وكذلك أشرطة قتل الرهائن المختطفين في سورية والعراق وليبيا.
دعاية مجانية الاستشاري النفسي والتربوي، الدكتور موسى المطارنة، قال إن «الفيديوهات التي ينشرها المتطرفون حرب نفسية»، موضحاً أنها «تهدف إلى بث الرعب والخوف في نفوس العامة، بحيث يصبحون ضد أي تحرك ضد هؤلاء المتطرفين»، مضيفاً أن «نشر الفيديوهات يشكل للمتطرفين دعاية مجانية، توقع الرعب في نفوس الأطفال والشباب، ما يدفعهم للخوف والقلق والتوتر». وتابع: «من جهة أخرى، يغري المتطرفون عبر الأشرطة المصورة المجرمين والمطلوبين الدوليين وضعاف الدين للانضمام إليهم، كونهم حاضنة للخروج على كل القوانين والقيم والأعراف الإنسانية، تحت غطاء الدين أو غيره، ناهيك عن تأثير تلك الأشرطة في الأطفال والنساء والشباب، إذ تشكل لديهم حالة من عدم التوازن النفسي، والخوف على مستقبلهم». مؤثرات «هوليوودية» نقلت جريدة «التايمز» البريطانية عن خبراء قولهم إن المؤثرات التي يتم استخدامها من قِبَل «داعش» في الفيديوهات، هي المؤثرات نفسها المستخدمة في «هوليوود»، خصوصاً تلك المستخدمة في سلسلة «Lets Go»، التي تخاطب الشباب الغربيين للانضمام إلى «داعش». وبحسب خبراء، فإن سلسلة الأفلام القصيرة التي أنتجها «داعش» وبثها على الإنترنت، وتبلغ مدة كل واحد منها خمس دقائق، يتم فيها استخدام التقنية والأسلوب نفسيهما المستخدمين في إنتاج الأفلام السينمائية في هوليوود، وهو أسلوب يقوم على المونتاج السريع والإثارة، مع عرض مقاطع تتضمن عنفاً مرافقة لموسيقى سريعة، تشد المشاهد وتلفت نظره وتوصل الرسالة إليه سريعاً. |
ولاحظ سينمائيون أن تلك «الأفلام القصيرة»، التي بثها «داعش»، كانت مصنوعة بحرفية سينمائية، موضحين أن الصورة والمؤثرات المرافقة تهدف إلى تضخيم الرعب في نفوس المشاهدين، في حرب نفسية على «ضحايا الصورة» تستخدم صورة صادمة.
وعلى الرغم من محاولات التنظيمات المتطرفة والدموية بث الرعب وتصوير نفسها بأنها قوية، وتركيب مشاهد وصور في تلك الأشرطة، إلا أن مراقبين أكدوا أن تلك الجماعات الخارجة على كل القيم الإنسانية، لا مستقبل لها، وإنها تصنع قبرها بيدها، خصوصاً أن تلك الأشرطة تكشف للصغير والكبير أن المتطرفين ليسوا سوى قتلة للحياة، وهدامين للأمل، ورعاة لليأس، وصناع للخراب والظلامية.
وإذا كانت خطابات الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم «القاعدة»، يبث معظمها في تسجيلات صوتية، فإن «داعش» يركز على «الصورة المتحركة»، متضمنة صوتاً ومؤثرات صوتية وتقطيعاً للمشاهد وإعادة تركيب.
أثارت مشاهد القتل والحرق المشاهدين في كل العالم، مطالبين باستراتيجية لوضع حد للمسلسلات الدموية، التي يرتكبها المتطرفون، لكن من جانب آخر أثارت طريقة صناعة أفلام «داعش» القصيرة وحرفيتها، المختصين في المجال السينمائي، للحديث عن تأثير تلك الأشرطة التي تظهر عناصر من «داعش» يقومون بجز الأعناق وحرق إنسان حي.
وأكد مختصون في السينما وعلم النفس أن الفيديوهات، التي ينشرها المتطرفون تهدف إلى بث الرعب في نفوس العامة. وقال الاستشاري النفسي والتربوي، الدكتور موسى المطارنة، إن «أشرطة المتطرفين تعد جزءاً من حرب نفسية، كما تمثل دعوة للمجرمين الدوليين والجهلة والعصابات للانضمام إلى المتطرفين».
«الإمارات اليوم» وجهت سؤالاً إلى عدد من المشتغلين العرب بالسينما وعلم النفس، حول تأثير فيديوهات المتطرفين في المتفرج، حيث أكد معظمهم أن «تكرار عملية صناعة هذه الأفلام يعكس الهدف المراد من قبل هذا التنظيم الدموي، لكن أصبحت غالبية الناس واعية بأن هذا التنظيم ما هو إلا قابر للحياة».
تخطيط
الكاتب والمخرج الإماراتي عبدالله الحميري، يقول إنه في بداية نشر الفيديوهات «كان تأثيرها كبيراً جداً، وأعتقد أن الهدف الرئيس هو إرهاب المشاهدين وتخويفهم، لكن بعد تكرار بثها حدث العكس مع المتلقي، إذ أصبحت هذه الأفلام المصنوعة بشكل تقني سبباً في ازدياد التصميم على إنهاء هذه الآفة، وازدياد الكره لها، والنفور من التطرف»، مضيفاً أن «معظم المشاهدين باتت متأكدة أن تنظيم (داعش) ليس فقط يستخدم الدين بشكل خاطئ، إنما أيضا هو أداة للإجرام والوحشية، وكان ذلك واضحاً من طريقة تصوير الفيديوهات التي تدل على تخطيط مسبق، واستخدام التقنيات الحديثة في عرض أمر لا يمكن للعقل أن يصدق أن الفاعل فيها يمتلك ذرة من الإنسانية بداخله».
ويرى المخرج الأردني يحيى العبدالله أن جزءاً من الجمهور يقع ضحية للتضليل والترهيب، ويظن أن مثل هذه التسجيلات المصورة بطريقة فنية «إشارة إلى قوة المتطرفين، ما يزيد حماسهم تجاه الانضمام إليهم، لكن في الوقت نفسه لتلك الأشرطة تأثير عكسي، إذ أثرت وحشيتها في تصورالناس لشكل المستقبل، أما معظم الناس فيعتقدون أن تلك الأشرطة انتحار سياسي للتنظيم».
ويضيف العبدالله: «لم أكوّن تصوراً من الناحية الفنية لمثل تلك التسجيلات، لكن من الواضح أن القادمين من الغرب يؤمنون بقوة خطاب الصورة».
استعراض دموي
في المقابل، يقول المخرج المصري كريم حنفي «معظم الذين يشاهدون هذه النوعية من التسجيلات، يكون حديثهم عن الجودة التقنية في تسجيل اللقطات، واستخدام أدوات تصوير متقدمة ومعقدة، بغرض تنفيذ لقطات استعراضية دموية»، مؤكداً أن «الغرض الأساسي من الفيديوهات هو الترهيب ونشر الرعب وصناعة خرافة (داعش) القوي، بالإضافة للدعاية ودعوة الباحثين عن تنظيمات عنيفة ودموية للانضمام إليه، وقد حصلت حالات بين شباب انضموا للمتطرفين، باعتبارهم قوة».
ويرى المخرج الفلسطيني طرزان ناصر أن «تلقي الموضوع يختلف من شخص لشخص، حسب عقلية المتلقي وثقافته»، مؤكداً أن «شعور الخوف هو المسيطر على غالبية المشاهدين لهذه النوعية من الأفلام، الخوف من هذا الغول الذي كنا نعتقد أنه من الخرافات، وأصبح حقيقة، فكل شخص معرض لأن يكون (البطل الضحية) في فيلم (داعش) الجديد المصنوع فنياً». ويضيف: «أما بالنسبة للمشاهد المثقف، يعطي نفسه وقتاً ليفكر بهذه الفيديوهات، خصوصاً أنها مصورة بطريقة سينمائية جيدة، وأن القائمين عليها يعون جيداً قواعد صناعة الفيلم والغرافيك، فبالتالي سيكتشف المثقف أن هناك نوعاً من الفنتازيا في طريقة التمهيد لقتل الضحية، وفي فكرة إنتاج الفيديو من الأساس».
الصدمة والعادة
المخرج الأردني فادي حداد يقول إن «ما يثير اهتمامي هو المقدرة المتزايدة لدى المشاهد على تحمل جرعات الصدمة البصرية عبر الزمن، ففي بداية الستينات أثار إظهار ألفريد هيتشكوك لقطات من المرحاض في فيلم (سايكو) حفيظة الجمهور والرقابة، واعتبر مشهد القتل الشهير في الفيلم صادماً وشديد الدموية، بينما من ينظر إليه الآن يرى أنه لا يحتوي على عُشر الدموية التي نراها في النوع نفسه من الأفلام التي تنتج الآن ويشاهدها الجمهور دون أن أي حساسية»، مشيراً إلى أن أحد مؤرخي السينما كتب أن هيتشكوك بهذا الفيلم علم الجمهور الأميركي حب الذبح.
ويوضح أنه «مع الفرق في الغرض والمستوى الفني، إلا أنه من الممكن تطبيق النظرية على نوعية المشاهد التي باتت معتادة بالأخبار، إذ نشاهد كل يوم في الأخبار مشاهد لأشلاء وجثث دون تحذير (لأصحاب القلوب الضعيفة)، التي كانت تصاحب مشاهد أقل شدة منها بكثير، وهكذا فباعتقادي أن عنصر الصدمة، الذي تحرص الجماعات الإرهابية كـ(داعش) و(النصرة) و(القاعدة)، على بثه في قلوب الجماهير، فقد بريقه في الفترة الأخيرة، عندما اعتاد المشاهد (الأسلوب) التقليدي، ولم يعد يتأثر بالقدر المطلوب، فتوجب أن تزيد جرعة الدم والنار وغيرهما».
ويضيف حداد: «بطبيعة الحال، فإن سهولة الحصول على قيمة بصرية عالية، بفضل معدات الإنتاج الرقمية المتوافرة والسهلة الاستعمال، تجعل من الضروري التفوق على التوقعات، وتأمين عنصر الإبهار مقابل جيل قادر على التصوير بجودة (إتش بي) بهاتفه المحمول، وأخيراً، فقد غيرت شبكات التواصل الاجتماعي عادات التلقي والتواصل، وأصبح من الصعب جذب انتباه المشاهد والقارئ، الذي اعتاد مشاهدة فيديوهات قصيرة وقراءة تغريدات أقصر، كل هذا باعتقادي استلزم تكثيفاً للعناصر البصرية والسمعية، تضمن وصول الرسالة بالشكل الأسرع والأكثر تأثيراً».
تساؤلات وتشكيك
ما يثير انتباه المخرج من الجولان المحتل، سليم أبوجبل، هو حالة تواصل ورود فيديوهات المتطرفين الظلاميين، إذ يبدو كأنه مسلسل مليء بالإثارة، تُقتل في كل حلقة منه ضحية، والمشاهدون بانتظار ما سيحل بالقاتل الذي يبادر بالفعل ويراهن على التعاطف معه وليس مع الضحية، «ففهم المكونات الدرامية للصورة جعل التنظيمات الدموية تطور أدواتها، وتستعين بحرفيين وبمعدات ذات جودة عالية، فبعد أن كانت الوسيلة هي التصوير عبر الهواتف المتحركة تبين ما تثيره هذه الفيديوهات من ردود فعل، تم اللجوء إلى التخطيط للتصوير بشكل مهني، فيديوهات قطع الأعناق التي توالت في السنة الأخيرة تتبع التركيبة ذاتها، وتهدف إلى توصيل الفكرة وانخراطها في الأذهان من خلال تكرار المشهد». وحول مشهد حرق الطيار الأردني، ومشهد قتل العمال المصريين في ليبيا، يعلق أبوجبل: «أراد تنظيم (داعش) توصيل رسالة دموية، مفادها أنه بحالة من الارتياح، وقدرة في السيطرة على الجغرافيا والوقت، فهو يؤكد بهذا أنه ليس تنظيماً عابراً، ولا يقوم بالتصوير وإنتاج الفيديوهات تحت الضغط أو باستعجال».
ويشكك المخرج أبوجبل في بعض المقاطع المبثوثة، ويقول: «عند النظر للفيديوهات من زاوية مهنية وتوضيح ما قد يكون مشكوكاً فيه، فمن الممكن التشكيك في أن القفص غير حقيقي، وإنما تمت إضافته في المونتاج لاحقاً، وألزم الطيار بالبقاء مكانه، وتمثيل دور الشخص المحترق، كما يمكن أيضاً ملاحظة ثقب في رأس الضحية المحترق، ما يمكن أن يدل على أن الطيار قتل أولاً، ثم أحرقت جثته». ويردف أن «مشهد الحرق ليس حقيقياً، فالنار تمت إضافتها في المونتاج، وهو أمر معروف لكل من يعمل في مجال أفلام الرعب»، متسائلاً عن سبب كل هذا القدر من عمليات المونتاج والمؤثرات والإضافات على المادة المصورة الأصلية. ويجيب: «لأن التنظيم الإرهابي بطبيعته يسعى إلى تعظيم حالة الرعب بالوسائل كافة، وليس التقليل منها».
ويعود لطرح الأسئلة «هل تم تصوير مشهد البحر في خليج سرت في ليبيا، أم أنه أضيف لاحقاً بعد أن تم التصوير بتقنية الشاشة الخضراء؟ ما تفسير طول قامات الرجال بالأسود في بداية الفيديو، وظهورهم في وقت لاحق بقامات أقصر؟ ماذا عن اللون الأحمر في البحر الذي يمكن إضافته بوسائل بسيطة؟». ويجيب: «كتنظيم إرهابي لابد من أن تجند فريقاً سينمائياً، هدفه بث الرعب في الناس، وهذا يحقق الهدف باستقطاب أكبر عدد من المؤيدين، إما خوفاً أو إعجاباً».
في المقابل، يقول الشريك الإداري لمكتب «ماد سوليوشن» في دول مجلس التعاون الخليجي، اللبناني عبدالله الشامي «تم إنجاز أشرطة فيديو (داعش) وفقاً لأحدث معايير الإنتاج المتبعة في هوليوود، وهذا يجعلها تهدف إلى نشر الخوف بين الجمهور، كما أن هناك احتمالاً للبدء في إثارة تساؤلات من قبل الناس، حول الحصيلة الإنتاجية، وتقنية الإعداد والإخراج والأهداف، وكذلك حول هيئة الأشخاص الذين قتلوا بعد أن أصبح الهدوء سمتهم الغالبة حتى بدا الأمر كأنه تم تخديرهم»، مضيفاً: «بعض الناس وقعوا في الفخ، وأصبحوا يناقشون مسائل تتعلق بتصوير تلك الأشرطة، بدلاً من الحديث عن وحشية المتطرفين وهمجيتهم، ليجردونا من أي اتصال إنساني مع الضحايا».
توظيف الصورة
المخرجة التونسية منى سلطاني تؤكد أن «للصورة تأثيراً قوياً، وقد يكون صادماً». وتقول: «نحن العرب لنا باع طويل في الكتابة، لدينا الشعر والحكاية الخرافية والقصة، ولدينا تاريخ شفهي كبير لكننا لم نكن نؤمن بالصورة». لكنها تضيف: «عندما صرنا نؤمن بالصورة، لم نعرف كيف نستعملها حتى في قضايانا العادلة، كما في صورة باسم أبورحمة، الذي استشهد أثناء تظاهرة ضد جدار الاحتلال الإسرائيلي في بلعين، وصورة الطفل محمد الدرة الذي رآه العالم كله وهو يموت في حضن والده».
وحول تأثير تلك الأشرطة، تقول: «يوجد شق من المشاهدين انبهر بالصورة وخاف، وشق آخر من فئة المراهقين وقع في الفخ بعد أن دب اليأس في حياتهم»، مشيرة إلى أن استخدام الموسيقى المصاحبة للصورة والأغاني هي لغة لمحاكاة جيل الشباب، وهذه الطريقة تؤثر في الشاب الفاقد للأمل.
الصورة والمحتوى
يقول المخرج الأردني أحمد الزغول: «قد لا يدرك البعض مدى تأثير فيديوهات المتطرفين في عقلية ونفسية متابعيها، ولو عدنا بالزمن قليلاً لوجدنا أنّه عندما كان يعرض على التلفاز أي مشهد دموي قصير، حتى بعد تنبيه المذيع إلى دموية المشهد، كان يؤثر فينا سلباً طوال اليوم، ونمنع حتى أقرب المقربين من متابعته، أما الآن فأصبح الكثير منا يبحث على تلك المشاهد، ويتبادلها مع غيره من الأصدقاء، ويقارنها بأيها أكثر عنفاً، وما الطريقة التي استخدمها المتطرف في القتل، حتى أننا أصبحنا نبحث في صدقية الفيديو، وليس في محتواه الإجرامي والواقعي». ويشير إلى تأثير تخلفه تلك الأشرطة المصورة للقتل والحرق: «هنالك تأثير حالي ألا وهو عدم الوعي بتصرفات نقوم بها بشكل عنيف، أو حتى رد فعل سيئ تجاه الآخرين، أما التأثير الآخر طويل الأمد، الذي قد يظهر بعد حين في علاقة الشخص مع نفسه، بحيث يصبح يطلب العنف دون أن يشعر بأن هنالك تغييراً حدث له مع مرور السنين، أو قد تصل به الحال للتطرف أيضاً، وفي كل ذلك تبرير لنفسه بأنه يقوى على مشاهدة الفيديوهات الدموية».