بن تايه تمسّك بالعود ومقاماته الأصيلة وانتصر في النهاية رغم الضغوط والإغراءات والظروف غير المواتية. تصوير: أسامة أبوغانم

«مقامات بن تايه».. «الأيام المسرحية» تعود إلى «الــمعاصرة»

مع صلاحية بعض النصوص القديمة الاستثنائية لإعادة الروح إليها عبر عرض معاصر، تبقى الكتابة المسرحية المعاصرة أقرب للتعبير ومناقشة قضايا ذات تماسّ مباشر مع الواقع، ولا يمكن أن تكون الثيمة التراثية حاضرة طوال الوقت للمعالجة الرمزية لهذا الواقع.

الضعيف: العيان أفضل ممثل

قال الناقد المسرحي المغربي بوسلهام الضعيف، إن بطل عرض «مقامات بن تايه» الفنان سالم العيان، هو أفضل ممثل في عروض «الأيام المسرحية» حتى الآن، إذ تمكن من الاستحواذ على اهتمام الجمهور بفرادة أدائه، وهو رأي شاركه فيه العديد من الآراء النقدية، وأصحاب المداخلات في الندوة التطبيقية التي تلت العرض، وأدارها الفنان عبدالله مسعود.

وأشاد الضعيف بقدرة الحليان على ترويض شخصياته وحبسها «فنياً» داخل مربعات ضوئية، لكن هذه المربعات نفسها كانت محور تساؤل للدكتور محمد سيد أحمد عن المغزى لبقاء بعضها فترة طويلة، على الرغم من اكتمال أدائها مهمتها الفنية في بعض المشاهد.

وتساءل سيد أحمد أيضاً عن سبب تفضيل المخرج لأن يكون الفعل المسرحي بعيداً عن مقدمة المسرح، وهي مساحة خالية كانت من الممكن أن تبقى خياراً آخر بدلاً من تأخير المربعات إلى ما دون ذلك باتجاه عمق المسرح.

وأثنى على اتجاه مرعي الحليان إلى المعاصرة، وجرأة الولوج إلى قصة حب بين شاب وفتاة، تتضح عصريتها في كل ملامحها، فضلاً عن التوظيف الدرامي الجيد للموسيقى والأغاني.

هذا ما يتضح حينما تجرى مقارنة بين عرض أول من أمس ضمن المسابقة الرسمية لأيام الشارقة المسرحية في دورتها الحالية التي يستضيف عروضها مسرح قصر الثقافة بالشارقة حتى بعد غد، وهو مسرحية «مقامات بن تايه» لمسرح رأس الخيمة الوطني، وبين العرض السابق له «ليلة زفاف»، الذي كُتب نصه قبل عقدين، وعرض وقتها، ليتم استدعاؤه مرة أخرى لخشبة مهرجان أيام الشارقة المسرحية ويخرج مجدداً، وغيره من العروض التي اعتمدت على نصوص قديمة.

العمل الذي كتب نصه الفنان مرعي الحليان حفل بلغة معاصرة، ليس على صعيد اللهجة بل من خلال المضمون المعاصر للغة، وكذلك جاءت الأزياء والإكسسوارات، والأهم المضمون الدرامي للعمل الذي استمد ارتباطه بالجمهور من قوة ارتباطه بالواقع، وواقعية شخوصه، فجاء العمل على الرغم من الشاعرية والرمزية التي تعرف عن كتابات الحليان، واقعياً، وذا رسالة واضحة، ما يعني أن العرض سيكون منافساً بقوة على جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان. منذ اللحظة الأولى يعلن المخرج بشكل صريح أنه لن يكون محتفياً بالديكور، فالمسرح فضاء «أسود» لا يشغل المشاهد بصرياً سوى من يحركون الحدث في هذا الفضاء، وهم كوكبة من الممثلين الذين انسجموا مع نص الحليان ورؤيته الإخراجية على نحو مميز، وهم: سالم العيان وحسن يوسف وعبدالحميد البلوشي وميرة العلي وأحمد ناصر، وإن كان هذا الانسجام تفاوت بشكل كبير على صعيد كل ممثل على حدة.

الاختيار الجيد للممثل المحوري كان أيضاً أحد مكامن جودة العرض، فعلى الرغم من أنه لا يحظى بتواجد كمي يوازي طاقته التمثيلية الكبيرة، إلا أن سالم العيان (بن تايه)، كان بمثابة الرهان الأهم، وبأدائه كان يسحب القاطرة التمثيلية دوماً باتجاه معايشة وتواصل واقتناع من قبل الجمهور، بكل ما يدور فوق الخشبة، ليأخذ بالإيقاع التمثيلي، حتى في أكثر مستوياته انخفاضاً ليرتفع به، مقدماً «خدمات» جليلة للعرض، ومن ثم للمخرج، والجمهور، باتجاه الاستمتاع بالعمل، والتأمل فيه.

المربعات الضوئية والإضاءة شبه الثابتة كانا خيار الحليان على صعيد السينوغرافيا، وهي اختيارات في ما يبدو جاءت للإسهام في مزيد من الاهتمام بالمضمون الدرامي، أما المؤثرات فكانت بمثابة تعضيد فاعل للمضمون. ومن خلال ثنائيتين، إحداهما تتعلق بخيارات «الأنا» على صعيد الهوية، التي يجب أن نتشبث بها، في مواجهة ملامح لـ«الآخر» يراها عالمية، ويجب أن تسود على الجميع، بمن فيهم «الأنا»، فيما تدور الأخرى في إطار سيادة النزعة المادية وتشويهها للعلاقات الإنسانية، بما فيها مشاعر الحب والرومانسية التي لا تعترف بتذويب الفوارق بين الطبقات الاجتماعية. ومع تمسكه بالعود، ومقاماته الأصيلة، تسعى مؤسسة عالمية للاستفادة من موهبة الفنان الشعبي بن تايه، من أجل حفلات جماهيرية ذات عوائد مادية كبيرة، لكن متعهد الحفلات الأجنبي يصر على أن يصهره في تقاليد الغناء العالمي، الذي يحدد موقع كل شخص في الفرقة، ونمطاً موسيقياً يضمن له انتشاراً أوسع للأغنية، بشرط أن يتخلى بن تايه عن أدائه الكلاسيكي، ليبقى مجرد «خامة» صوتية يجرى تشكيلها وفق أجواء قائد المتعهد، الذي يعرف كيف يسوّق تلك «الخامة» لتدر عوائد مجزية. وما بين ابن يجسد دوره أحمد ناصر، الذي يستخدم شتى أساليب الضغط للدفع بأبيه للاستجابة لشروط المتعهد من أجل الحصول على قيمة العقود، يبقى الصراع بين بن تايه والمتعهد الذي أقنعنا بأداء دوره عبدالحميد البلوشي، بمثابة نموذج لصراع أكبر أمام موجات التغريب.

بينما يسلط العمل الضوء على قصة حب بين شاب من أسرة فقيرة (حسن يوسف)، وفتاة من طبقة ميسورة (ميرة العلي)، لتظل الطبقية فواصل في سبيل إقامة علاقة غير مشوهة، لاسيما أن طرفيها يقران في قناعاتهما بواقعية الفوارق، ولا يستطيع أحدهما أن يتغلب على إخلاصه لفكرة الاحتفاظ بالمسافات بين أبناء كل طبقة على حدة. حالات الإظلام جاءت بما يشبه الفواصل الزمنية بين المشاهد، ووظفت على نحو مبتكر، لدرجة أنها اقتربت من الخدعة البصرية بأسلوبها السينمائي وليس المسرحي من أجل خدمة السياق الدرامي، أما الأغاني فاختيرت بعناية لتقوي تصاعد الفعل الدرامي، وحتى في حال الإحساس بأن ثمة مبالغة في غناء بن تايه، أو ارتفاعاً غير مريح للأذن في صوت الموسيقى أثناء الحوار، جاء ذلك، أغلب الظن، متعمداً من قبل المخرج، للإيعاز بأننا بصدد رؤية اجتماعية مشوشة لدى جميع الأطراف، لكنها وفقاً للعرض لم تكن كذلك على الإطلاق في رأس الحليان.

الحليان.. من الإعلام إلى «المشروع»

كل من يصادف الفنان المسرحي مرعي الحليان يجده منغمساً في كتابة وتدوين ملاحظات، وتسجيل أفكار، حتى وإن كان ذلك أثناء مشاركة خارجية للمسرح الإماراتي، إذ يلجأ غالباً إلى إحدى زوايا الاستقبال في فندق الإقامة من أجل الانفراد بقلمه، وغالباً ما يعرض المحطات التي وصل إليها في كتابته على أصدقائه المحيطين به.

«مقامات بن تايه» كانت جزءاً من هذا النتاج المعاصر للحليان، الذي أكد لـ«الإمارات اليوم» أنه سعى على مدار معظم مشواره الفني للتوفيق بين عمله الإعلامي في «البيان»، وإخلاصه لفن الخشبة، لكنه في مرحلة ما شعر بأن عليه أن ينحاز بالمطلق للأخير.

هذا الانحياز و«القرار»، انعكس بشكل مرحلي على النتاج الفني للحليان، الذي لجأ لتنظيم العديد من الورش، وقدم أعمالاً عدة خلال تلك الفترة، سواء لمسرح الطفل أو الشباب، أو لـ«الأيام المسرحية»، عبر مشروع مسرحي متكامل جزء منه «مقامات بن تايه» التي جاءت بمثابة أول العروض «المعاصرة» نصاً ورؤية للدورة الحالية لأيام الشارقة المسرحية.

 عودة «ألق» «الأيام»

وصف المسرحي السوري مضر رمضان، في الندوة التطبيقية التي تلت عرض «مقامات بن تايه» بأنه يمثل عودة «الألق» لعروض أيام الشارقة المسرحية في هذه الدورة، وعودة «الإيمان» بقدرة هذا المهرجان العريق على إثارة الدهشة والمتعة؛ سواء للجمهور أو المهتمين عموماً بفن المسرح. فيما وصف الفنان الموريتاني تقي سعيد، المسرحي الإماراتي مرعي الحليان بالمهموم برؤية فنية غير تقليدية، خليجياً وعربياً.

الأكثر مشاركة