وُلِد على يديها كثير من أبناء مدينة العين
«د. لطيفة» عاشقة الإمـارات التي خلّدتها «ذاكرة الوطن»
التاريخ هو الهوية الحقيقية للأمم والشعوب، وهناك علامات فارقة في تاريخ الشعوب والدول لا يتشابه ما قبلها مع ما بعدها، كما في تاريخ الثاني من ديسمبر 1971، الذي يمثل في حقيقته جوهر تاريخ دولة الإمارات، واللبنة الأساسية التي بنيت عليها أسس قيام الدولة وتطورها ونموها، واستناداً إلى أهمية هذا التاريخ، وإلى حقيقة أن «تاريخ الإمارات المشرق لا يقل أهمية عن حاضرها الزاهي»، جاءت مبادرة «1971»، التي أطلقها سموّ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، بهدف الإسهام في توثيق تاريخ الدولة في جميع المجالات.
![]() |
واستلهاماً لهذه المبادرة المهمة، تأتي هذه الصفحة الأسبوعية التي تقدمها «الإمارات اليوم»، بالتعاون مع «الأرشيف الوطني»، التابع لوزارة شؤون الرئاسة، للتعريف بشكل الحياة في الإمارات قبل الاتحاد، وخلال بداياته الأولى، والجهد الكبير الذي بذله الآباء المؤسسون للدولة من أجل قيامها.
هناك شخصيات قَدِمت إلى المنطقة؛ دون أن تتوقع أو تخطط للبقاء كثيراً، لكن مع الوقت ارتبطت بالمكان حتى صارت جزءاً منه، ومن حياة البشر وتاريخ المجتمع، هؤلاء لا يمكن أن تنساهم «ذاكرة الوطن»، أو تغفل عنهم وعن ما قدموه للوطن.
|
ومن الشخصيات التي حفرت حضورها بقوة في ذاكرة الإمارات، تحديداً في العين وأبوظبي، وربما لا يوجد أحد من سكان العين إلا ويحتفظ لها بذكرى معينة في ذاكرته، وبقدر من الحب في قلبه؛ هي «الدكتورة لطيفة»، أو الممرضة الكندية جرترود دايك، التي وصلت إلى أبوظبي عام 1962، وانضمت إلى أسرة مستشفى الواحة في العين؛ وهو أول مستشفى في المدينة.
عملت جرترود، التي ولدت في 1934، أكثر من 30 سنة في الإمارات، وانغمست في ثقافة بلدها الثاني وتراثه، التي وجدت فيهما ثقافة ثرية وتراثاً رائعاً، كانت ممرضة مخلصة تعالج أفراد العائلة الحاكمة والأهالي في العين، وظفرت بحبهم واحترامهم. وقد مكّنها عملها في المستشفى من الاتصال اليومي بالمواطنين العاديين، وأقامت معهم صداقات وروابط حتى باتت تعرف باسم «الدكتورة لطيفة»، هذا اللقب الذي كانت أهلاً له بما اتصفت به من طيبة ولطف في التعامل مع السكان، ورغم أنها ليست طبيبة ولا تحمل شهادة في الطب، إلا أن خبرتها الطويلة وحبّ الناس لها، وحبها الشديد لمدينة العين والحياة فيها، هذه العوامل جعلت السكان يطلقون عليها لقب «الدكتورة لطيفة».
بدأ مشوار جرترود المهني بعد أن أنهت دراستها عام 1960، حيث اشتغلت ممرضة في مستشفى صغير في كندا لسنتين، ثم علمت بأن مستشفى جديداً هنا يطلب ممرضات، فجاءت إلى العين، ومنذ ذلك الوقت وقعت في غرام العين، وأعجبتها بساطة الحياة حينذاك، وزاد تعلقها بالمكان طيبة السكان وترحيبهم الدائم بها، وكذلك المعاملة التي كانت تجدها من قبل الشيوخ والحكام.
تصف د. لطيفة مشاعرها، في بداية حضورها للمنطقة، في حديث لمجلة «ليوا»، التي أصدرها الأرشيف الوطني في وقت سابق، قائلة: «كل شيء شاهدته في الإمارات كان مختلفاً؛ الطقس والحياة والناس، كل شيء كان بسيطاً، كانت هناك بيوت من الطين ولها براجيل». وتضيف «منذ وصولي العين صارت لي علاقات قوية مع الناس، فهم طيبون وقلوبهم مليئة بالحب للجميع، يعزموننا دائماً في بيوتهم، وكنا نذهب لنبارك لهم في الأفراح».
وتعود الدكتورة لطيفة لتصف مستشفى الواحة، الذي كان مقراً لعملها؛ فتقول: «أراد حاكم العين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن يوفر لشعبه الرعاية الصحية، ليخفف عنهم أعباء المرض، لذا حينما لم يكن في بداية الأمر للمستشفى مبنى خاص، أعطانا الشيخ زايد بيت المضيف، فكان هو المستشفى وهو المسكن، وكان هذا البيت يستخدمه الشيخ زايد لإقامة الضيوف الذين يتوافدون من خارج البلاد، وهو عبارة عن مبنى يقع في وسط العين، بالقرب من مدرسة النهيانية للأولاد».
مزيد من التفاصيل عن علاقتها بالمكان وتفاصيل الحياة فيه تتحدث عنها لطيفة، مشيرة إلى حبها وتعلقها الشديد بالزي الإماراتي، فهو جميل ومريح، ومع الوقت اعتادت هذا الزي، كما زاد تعلقها به عندما وجدت أن الناس كانوا يحبون أن يروها مثلهم، ويشعرون بأنها واحدة منهم، كما أحبت اللغة العربية، وتعلمت اللهجة المحلية من أبناء المجتمع. ولما كانت لطيفة عاشقة عملها، فإنها كانت تسرد ذكرياتها بمنتهى الدقة والتفاصيل كأنها تعيش الحالة، وفي حديثها لمجلة «ليوا»، قالت: «في بداية إنشاء المستشفى كان الناس متخوفين، لأنهم لم يعتادوا الأطباء والمستشفيات، وما كانوا يحضرون إلى المستشفى، لكن الدكتور كيندي وزوجته كانا يتكلمان اللغة العربية، فكانا يزوران الناس ويقدمان لهم العلاج مجاناً، وكانا يداويان عيون الأطفال، وكان الصغار يتعافون بسرعة من الرمد والالتهابات، ونظراً للمعاملة الطيبة التي كان الناس يتلقونها منا، تشجعوا على زيارة المستشفى لمعالجتهم، بعد أن كان المرضى يعتمدون في العلاج على الأعشاب، والوسم، والرقية».
وولد على يديها عدد كبير من الأطفال؛ إذ كانت معروفة بمهارتها في التمريض، أما في السنوات الأخيرة من عملها، فعملت لطيفة بتدريس اللغة العربية واللهجة المحلية للموظفين والعاملين الجدد في مستشفى الواحة، إيماناً منها بأن العلاقات الطيبة لن تنشأ بين طاقم المستشفى والأهالي إلا من خلال اللغة واللهجة الدارجة.
نعي
أصدرت إدارة مستشفى الواحة، في العين، بياناً نعت فيه الممرضة جرترود دايك، عقب وفاتها في موطنها الأصلي كندا، عن عمر يناهز الـ75. وأشارت إدارة المستشفى إلى أن جرترود دايك قَدِمت للعمل في مستشفى الواحة عام 1962 ممرضة شابة من بلادها، لخدمة مجتمع مدينة العين لمدة 38 سنة، حيث عملت جنباً إلى جنب مع الدكتور بات كندي وزوجته الدكتورة ماريان كندي، اللذين أسسا مستشفى الواحة عام 1960. وقالت إدارة المستشفى: «على يديها تمت ولادة أعداد لا تحصى من أطفال أسر الإمارات»، لافتة إلى مهاراتها في التمريض، وطلاقتها في اللغة العربية، وحبها لثقافة ومجتمع دولة الإمارات، ما أكسبها ثقة الأهالي، حيث يفخر العديد من العائلات المواطنة، حتى يومنا هذا، بأن من أشرفت على ولادة أطفالهم هي الدكتورة لطيفة، وأن العديد من أصحاب السموّ الشيوخ قد تمت ولادتهم أثناء وجودها في المستشفى. وأشار البيان إلى أنه على الرغم من عودتها إلى كندا بعد تقاعدها، فإن قلبها ظل معلقاً بحب الإمارات، وكان منزلها في كندا يزخر بالصور والكتب والتذكارات، والأشياء التي تذكّرها بالسنوات الرائعة التي قضتها في الإمارات. ذكريات ومذكرات منذ قدومها إلى العين، كانت عدسة الدكتورة لطيفة شاهدة على أحداث كثيرة، إذ قامت بتدوين ذكرياتها بعنوان «الواحة»، ونشرتها مدعمة بالكثير من الصور والذكريات في مدينة العين عام 1995، رداً لجميل البلد الذي عدّته بلدها، وللشعب الذي عدّته شعبها، وفي المقابل أجريت معها العديد من المقابلات، وكتب عنها الكثير من المقالات، لأنها تمثل نبعاً ثرياً وصادقاً للذاكرة، فهي تسرد كثيراً عن الحياة في ماضي الإمارات. مرحلة تحولات وصلت جرترود دايك إلى إمارة أبوظبي، في وقت شهد العديد من التطورات المهمة في المنطقة، والتي أعقبت اكتشاف النفط واستغلال موارده، وكانت في موقع فريد سمح لها بأن تسجل بعدستها أسلوب حياة في طور التحول؛ فتركت تلك المجموعة الرائعة من آلاف الصور الفوتوغرافية، ووثائقها الشخصية التي لا تقدر بثمن، وقد أهدتها إلى الأرشيف الوطني. |
وأنعمت الحكومة الكندية على جرترود دايك بوساميْن من أرفع الأوسمة الكندية: «وسام كندا»، وميدالية اليوبيل الذهبي للملكة إليزابيث الثانية، تقديراً لجهودها المخلصة، وما قدمته من خدمات لشعب الإمارات؛ فكرَّمتْها هيئة الصحة تقديراً لخدماتها. وأمضت جرترود سنوات تقاعدها في كندا، وظل أسلوب حياتها متأثراً جداً بعادات الإمارات وتقاليدها حتى وافتها المنية.
وإثر وفاتها في 17 أكتوبر 2009، وبالنظر إلى مكانتها فقد شارك ثلة من أبناء الإمارات في تشييع جنازتها، وكان في مقدمة المشاركين في مراسم دفنها وتأبينها السفير الإماراتي لدى كندا محمد عبدالله محمد الغفلي. وفي 29 نوفمبر 2010، منح صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، وسام الاستقلال من الطبقة الثالثة إلى اسم الممرضة الكندية الراحلة جرترود دايك، تقديراً لجهودها في خدمة القطاع الصحي، وقد تسلم الوسام عميد أسرة الراحلة إرنست دايك.
أرقام وأحداث
38
عاماً، قضتها الدكتورة لطيفة منذ أن جاءت إلى العين، وعملت فيها بمستشفى الواحة.
2009
عام وفاة الدكتورة لطيفة في كندا، وقام وفد إماراتي بالمشاركة في مراسم دفنها وتأبينها.
2010
العام الذي منح فيه صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، وسام الاستقلال من الطبقة الثالثة إلى اسم الممرضة الراحلة جرترود دايك.
1960
عام تأسيس مستشفى الواحة، الذي عملت به الدكتورة لطيفة مع الدكتور بات كندي وزوجته الدكتورة ماريان كندي، اللذين أسسا المستشفى.
قاعة خاصة
لما كان الأرشيف الوطني معنياً بحفظ ذاكرة الوطن، أفرد جناحاً في قاعة الشيخ زايد بن سلطان الكائنة بمقره لمقتنيات الممرضة الكندية جرترود دايك، المعروفة بـ«الدكتورة لطيفة»، وذلك على ضوء توجيهات سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة، رئيس مجلس إدارة الأرشيف الوطني، بتخصيص جناح في قاعة الشيخ زايد لمقتنيات وصور نادرة قدَّمتها أسرة الراحلة «الدكتورة لطيفة» هدية للأرشيف، وتحكي هذه الصور والمقتنيات مرحلة حيوية من تاريخ أبوظبي والدولة، واهتمام الشيوخ بالقطاع الصحي.
للإطلاع على صور تاريخية ، يرجى الضغط على هذا الرابط.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news