الشيفرة.. الواقع يتحول ميثولوجيا أسطورية
مجموعة من اللوحات الغنية بالرموز، والأشكال الثلاثية الأبعاد الغامضة المغزى، هي ما تجمع كلاً من العراقي سيروان باران، والسنغالي شيكو با، في معرضهما الذي حمل عنوان «الشيفرة» والذي افتتح أخيراً في «موجو» غاليري بدبي. يحملنا المعرض إلى تتبع فنانين من بلدين مختلفين، فنجد كيف تسيطر التعبيرية على أعمال باران، بينما تأخذنا المجسمات إلى التوغل في ألغاز كائنات با الفنية، في ظل سيطرة للإيحاءات الرمزية والسوريالية، فنجد أننا أمام معرض يحول الواقع إلى ميثولوجيا أسطورية.
شيكو با ولد الفنان شيكو با في السنغال عام 1971 بداكار، وتخرج في كلية الفنون بداكار، كما حصل على شهادة في صناعة السيراميك من جامعة جنيف. قدم الفنان السنغالي مجموعة من المعارض الجماعية في ألمانيا والجزائر وإسبانيا وفرنسا وكندا وسويسرا والسنغال. بينما في رصيده ثمانية معارض فردية قدمها بين فرنسا وإسبانيا والسنغال وفنلندا وسويسرا. سيروان باران ولد الفنان العراقي سيروان باران ببغداد في العراق، وتخرج في كلية الفنون، وهو عضو في جمعية الفنون التشكيلية في العراق، ويعمل ويقيم حالياً في الأردن. قدم مجموعة من المعارض الجماعية بين الدوحة وعمان والبحرين والمغرب والكويت وحلب ومصر وبغداد. أما معارضه الفردية فكانت بين عمان ومراكش ودمشق وطوكيو وبغداد. |
تعد الشيفرة منظومة من الكلمات والحروف أو الأرقام التي تستخدم للتعبير عن شيء ما، أو الآخر، بطريقة غير مباشرة، وتستدعي من يفكها أو يحل لغزها. وهذا العنوان الذي وضع للمعرض الذي يستمر حتى 31 أكتوبر، يشكل دعوة للبحث في الرموز وفهم ماهية الرسائل التي يريد كل من الفنانين إيصالها من خلال المواد المتنوعة التي يستخدمها سواء كان العمل ثنائي أو ثلاثي الأبعاد، وكذلك من خلال الأسلوب الفني المكرس في مسيرة فنية عمرها عشرات السنوات لدى كل منهما.
تتشكل الأعمال من كائنات بشرية وغير بشرية ثنائية الأبعاد تارة، وثلاثية الأبعاد في الطور الآخر، تختزن الكثير من الرسائل المشفرة، فهي مفعمة بالتحولات المادية للأجسام وكذلك التركيبات المتعددة، فنجد البشر في اللوحات بأشكال متعددة يتساقطون ويتطايرون، يحملون الصراخ والألم بصمت، بينما في المقابل نلاحظ الإبهام في تعددية الكائنات لدى با، وكذلك الروح الساخرة في رصد الواقع الأليم من خلالها، هذا التباين بين النمطين في الأسلوب التعبيري والمواد يضعنا أمام مشاهد متناقضة محاطة بمجموعة من الأسئلة المتعلقة بحياتنا، ولاسيما الجزء الغامض وغير الظاهر منها والمرتبط بالموت، فهناك رصد للحياة والموت، الألم والسعادة، الخير والشر. كما أن هذا التداخل في البعد الفني يجعلنا أمام واقعية سردية، تحول الأعمال إلى ما يشبه الدراما، فكأننا أمام شخصيات بأدوار مدروسة، إنه الشكل المعاصر من الواقعية والتعبيرية، الذي يقوم على تمازج التناقضات بين الخيال والواقع، والوضوح والتعقيد، والحقيقة والحلم.
يقدم الفنان العراقي، سيروان باران، ما يقارب 15 عملاً في المعرض، يختزل من خلالها الصراع البشري مع الحياة والموت، فتفيض من لوحاته مشاعر الألم والصمت العميق، كما أنها تبدو مثقلة بالمشاعر المرتبطة بالخوف الإنساني والقلق من المصير والمشاهد المرتبطة بحالة الزوال المتكررة في حياتنا.
اللافت في تجربة باران أنه يحملنا إلى عالم التجريد وسط التعبيرية التي يطرح بها هواجسه ومخاوفه، فنجد اللوحة لديه منقسمة ومتوازنة بين هذين النمطين. تبدأ اللوحة بمجموعة من الرموز والألوان الفرحة، وربما الأرقام، وبعض أوراق الصحف الملصقة، فنشعر للوهلة الأولى أننا أمام لوحات فيها الكثير من الحياة، ليتلاشى عبر التمعن الدقيق في العمل هذا الانطباع، ونرى أننا أمام سرد لمشاعر قاسية يفصح فيها الفنان عن كل ما يعتريه، إذ يبدو كأنه يكشف الداخل البشري لديه ولدى المشاهد، فيخاطبه بما يشغله أيضاً.
يستخدم باران في لوحاته الكثير من الرموز ومنها الكلب المسعور الذي يرمز به إلى الحارس القديم للموتى، كما نجد في لوحاته مشاهد تبرز حالة التعذيب الخفية، والضياع، والزوال، فاللوحات تحمل الكثير من المشاعر الإنسانية القاسية. وقد تكون الألوان التي يستخدمها الفنان في أعماله هي الجانب الذي يخفف من وطأة هذا الخوف، ومن حدة هذه القسوة، حيث إنه على الرغم من كبر حجم هذه المشاعر إلا أنه يعرضها بمجموعة من الألوان التي غالباً ما توضع في خانة الألوان الفرحة. وقد تبهجنا بعض اللوحات للوهلة الأولى، نظراً إلى وجود هذا الفرح العارم، ومنها على سبيل المثال اللوحة التي يجعلها الفنان تبدو كأنها تصوير لوجه مهرج، لكن ما نلبث أن نكتشف هروب هذا الرجل من الخطر المتمثل في الحيوان المستعر.
أما الفنان السينغالي شيكو با، فيأخذنا إلى عالم مختلف وأسئلة من نوع آخر يصيغها من خلال الأشكال الثلاثية الأبعاد، التي تحمل الكثير من الكائنات الحيوانية. تحمل أعمال با الكثير من الأشكال والأبعاد والصور التي تبدو أنها تفرض حالة فانتازيا، فهي تشتمل على ألعاب أطفال صغيرة، وأشكال حيوانات، تحولت إلى مادة فنية خالصة. هذا النوع من الفن يحمل في طياته سخرية من المحيط، ومن الكائنات، وربما من الفن نفسه، حيث يكسر الفنان المألوف والمنطق، ويقوم من خلال الخيال بإضفاء علامات الجمال على هذه المواد الاستهلاكية اليومية.
وفي السياق النفسي التسلسلي ذاته لأعمال باران، نجد أن الفنان السنغالي أيضاً يأخذنا عبر المنهج نفسه في حالة شبيهة، فهذا المرح والفانتازيا في العمل اللذان يفرضان حالة من الابتهاج والسعادة وربما الدعابة، يضمحلان مع النظرة العميقة، حيث نجد أننا أمام تعذيب وموت ومشاعر غاية في القسوة، تتجلى من مشهد البقرة المقطوع رأسها والموضوع في دلو بالقرب من جسدها، ثم في الألعاب المقيدة بالسلاسل، وكذلك الدلاء المحشوة بمواد بلاستيكية سوداء. كل هذه الأعمال تشكل التصادم بين براءة الأطفال وقسوة الحياة على الكبار، أو أنها تجمع بين العين التي يرى بها الصغار والعين التي يرى من خلالها الكبار هذه الألعاب والقطع البلاستيكية. يقودنا با من خلال أعماله إلى مجموعة من الأسئلة حول التهديم والتركيب، وإعادة تنظيم الأشياء والأشكال، وكذلك كيف يمكن أن يتغير المعنى للأشياء بتغيير بسيط في استخدامها وفي المنظور لها.