مهندس مياه أنشأ مطعم «بروديري يافا» بهويتين فلسطينية وبلجيكية

شهادات عليا تنتهي في المطبخ

صورة

«أفتخر بكل تحصيلي العلمي، لكن شهاداتي العليا انتهت في مطبخ المطعم». بهذه الجملة الصاعقة، وبابتسامة واثقة ومتفائلة بالحياة، يستهل الدكتور عمار دعاس حواره لـ«الإمارات اليوم» ونحن نجلس إلى طاولة خشبية عتيقة في مطعمه ومقهاه البلجيكي العريق «بروديري يافا» في وسط مدينة غنت، والذي جمع في تسميته هويتين فلسطينية وبلجيكية.

دعاس، يحمل درجة الدكتوراه في هندسة مصادر المياه، وهو المهندس المدني الذي تخرج في جامعة النجاح في نابلس، وتزوج من شريكة حياته الجامعية، ليعمل بعدها في وزارة التخطيط في السلطة الوطنية الفلسطينية ويصل في تدرّجه الوظيفي، وعبر مؤهلاته، إلى موقع إداري متقدم.

شركات تخرق الدستور

حول غرابة الحالة وهو المواطن البلجيكي الذي يحمل الشهادات العالية الأكاديمية في تخصص مطلوب، يقول عمار دعاس، إنه لا يتردد باتهام بعض الشركات البلجيكية والأوروبية الخاصة والعملاقة العاملة وراء الحدود بأنها «عنصرية الانتقاء في ما يخص مواردها البشرية»، مضيفاً «وظيفة لمن هو في تخصصي بلا شك راتبها سيكون مرتفعاً جداً علاوة على الامتيازات، وتفضل الإدارات الأوروبية أن تمنح تلك الوظائف لأوروبيين من أهل بلادهم، وليس لفلسطيني حاصل على جنسية، رغم ما في ذلك من خرق للقوانين والدستور، وبالطبع لا يقولون لي ذلك علناً، بل كانوا يرفضون طلبي بمختلف الحجج الواهية وغير المنطقية».

لكن طموحات المهندس الشاب، وفي تلك الظروف الصعبة في الأراضي المحتلة، إثر الاحتلال الاسرائيلي الذي يحاول خنق الحياة الفلسطينية. وكانت الانتفاضة التي اندلعت مطلع الألفية في ذروتها، وكانت طموحات دعاس أكاديمية، إذ يسعى لتحصيل المزيد من المعرفة الأكاديمية، فكان سفره الأول إلى المملكة المتحدة لحيازة شهادة الماجستير، ثم هولندا للحصول على دبلوم عالٍ في الهندسة، ثم التوجه إلى بلجيكا ليسكن في مدينة غنت مع زوجته عام 2002، ليحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة غنت.

يقول الدكتور المهندس دعاس إنه بعد وصوله إلى بلجيكا، وأثناء تحصيله العلمي في جامعة غنت، تعلق بالمدينة، وقرر مع زوجته الاستقرار فيها، فتقدم أيامها بطلب جنسية حسب القوانين المرعية حينئذ، وحصل عليها بعد فترة من إقامة شملتها الدراسة.

لتبدأ الحياة للفلسطيني النابلسي وزوجته ابنة جنين، مواطنين بلجيكيين، وتبدأ معاناة الاستقرار والبدء من جديد، خصوصاً ــ كما يقول دعاس ــ أنه قادم من وضع وظيفي ومعيشي ممتاز في نابلس، ومتطلبات الهجرة في الأوطان الجديدة أن تبدأ من جديد.

«كافحنا أنا وزوجتي في العمل في الترجمة، وحصلنا على ما يؤهلنا في ذلك باللغة الهولندية المعتمدة في مدينة غنت»، يقول دعاس، الذي يضيف «حصلت زوجتي على وظيفة في إحدى السفارات العربية، حيث تعمل حتى اليوم، وبقيت أنا أهتم بابننا وبنتنا، وشؤون البيت وأبحث عن عمل، وكنت أجري البحوث لدراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة غنت، وحصلت على شهادتها». ويشير إلى أنه على الرغم من حصوله على كل تلك الشهادات والخبرة والاختصاص، إلا أنه لم يوفق في الحصول على عمل يناسب مؤهلاته العالية في بلجيكا أو خارجها.

وبابتسامة المنتصر، يكمل عمار دعاس «عشت سنوات صعبة، كنت فيها أعاني بوادر الاكتئاب، فأنا قادر على العمل، ولا أستطيع لأنني مؤهل أكثر من اللازم». ويوضح أنه فكّر في إنشاء المطعم، خصوصاً أنه يتقن فن الطبخ، حين لاحت له فرصة شراء مطعم مغربي مغلق في أطراف وسط مدينة غنت. لكنه، كما يقول، لم يحصل على المبنى بسبب اختلاف الورثة أصحاب المطعم، ما قاده إلى التعرف إلى شاب فلسطيني كان يعمل في مطعم ومقهى «دي بروديري»، وهو من أشهر المقاهي والمطاعم العريقة في وسط غنت القديم، ويشغل مبنى قديماً بدوره، وهو من المطاعم المشهورة بتقديمها الأطباق البلجيكية المحلية والخبز المحلي، ومن هنا اكتسب اسمه بمعناه «ركن الخبز».

كانت صاحبة المحل البلجيكية، هيلدا، أدارت المحل لأكثر من ربع قرن، قد تعبت من العمل، ولم يكن أحد من أولادها راغباً بوراثة إدارة المحل، فعرضته للبيع، ليكون من نصيب المهندس الفلسطيني الذي اشتراه أوائل الصيف الماضي، تحت وطأة مسؤولية استمرار النجاح، وأحاديث أهالي ورواد وسط المدينة الذين تطلعوا بفضول إلى هذا المهاجر الفلسطيني الشاب، والذي تقدم بشجاعة لإدارة وامتلاك مقهى ومطعم يشكل جزءاً من الذاكرة الثقافية للمدينة.

وفعلاً، وقبل مهرجان صيف غنت الغنائي والموسيقي، وهو أكبر وأهم حدث فني تشهده المدينة على مستوى أوروبا برمّتها، كانت ملكية المحل تؤول إلى ابن نابلس المهاجر، مهندس المياه، الذي بدأ العمل بنفسه في صيانة المطعم، وقد اتخذ قراراً بعدم المساس بجوهره الثقافي، فاحتفظ بطاولاته الخشبية المميزة والعتيقة، وحافظ كذلك على قائمة الطعام والشراب البلجيكية ذاتها. لكنه قام وضمن طموح ثقافي بجوهره بإضافة الفطور والغداء الفلسطيني، كما يسميه في مطعمه، والمكون من طبق أنيق يحوي الفلافل والحمص والزيت والزعتر والزيتون واللبنة والتبولة والكبة.

ويتابع دعاس «من أجل ممارسة فعل ثقافي حقيقي، أضفت إلى اسم المطعم، كلمة يافا، ليصبح رسمياً (بروديري يافا) أو ركن الخبز اليافاوي». ويضحك معلقاً «أنا أقاوم، ولكن بطريقة حضارية، الغزو الثقافي الذي يريد احتلال ذاكرة العالم حول فلسطين».

تويتر