المنسي قنديل يتتبع مصائر «الأورطة المصرية السودانية» بالمكسيك
من أحراش «بحر الغزال» في السودان، إلى قصور ملكية، وشلالات في أقاصي المكسيك، تمتد خرائط رواية «كتيبة سوداء» للمبدع محمد المنسي قنديل، الذي يعاود النبش في التاريخ، ويتتبع مصائر «الأورطة السودانية المصرية»، وجنوداً كانوا رعاة في غابات الجنوب وجبال النوبة وفلاحين من صعيد مصر.. تتغير عوالمهم دونما اختيار، وينقلون من فضاءات هادئة، إلى أراضٍ غريبة، وأمكنة صاخبة بالحروب.
البداية كما العديد من محطات الرواية لا تخلو من الدم والقسوة، إذ تصوّر كيف اقتلع بعض هؤلاء الرجال من قراهم البعيدة، وكيف كانوا ضحايا صفقات بين سلطان و«جلّاب عبيد». تبدو الرواية مهمومة بمصائر الجميع؛ تعنى بطرف من سيرة من ماتوا خلال الرحلة، وأيضاً من عادوا سالمين، وحتى من اختاروا «أوطاناً بديلة»، ورفضوا الرجوع إلى بلدانهم.سيرة محمد المنسي قنديل؛ كاتب وروائي مصري، ولد في مدينة المحلة الكبرى عام 1949، تخرج في كلية الطب عام 1975، لكنه انشغل بإعادة كتابة التراث؛ فاعتزل الطب وتفرغ للكتابة، وعمل لسنوات طويلة في مجلة العربي الكويتية، وقدم نتاجاً نوعياً في أدب الرحلات. حصل المنسي قنديل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1988، وتميزت كتاباته بشغفه بالتاريخ، وصدر له العديد من الروايات، منها: «انكسار الروح» 1992، و«قمر على سمرقند» 2004 وفازت بجائزة ساويرس للآداب، و«يوم غائم في البر الغربي» 2006، ووصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر للرواية العربية (2010)، ورواية «أنا عشقت» 2012، كما صدرت له مجموعتان قصصيتان: «لحظة تاريخ»، و«ثلاث حكايات عن الغضب». 473 صفحة تقع فيها رواية «كتيبة سوداء»، للكاتب محمد المنسي قنديل، والتي صدرت عن دار الشروق المصرية، وصدرت منها طبعات عدة، وستحجز لنفسها مكاناً، ربما في حال ترشحها، في قائمة «البوكر العربية» خلال دورتها المقبلة، ليقف الروائي المصري من جديد على منصة الجائزة التي تتنافس عليها أعمال بالجملة. عمر طوسون أبرز الكتب التاريخية، التي تعرضت لأولئك الجنود بشكل تفصيلي، كتاب «بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك» للأمير عمر طوسون، الذي أشار إلى أن أرض المكسيك «مناخها وبيل تنتشر فيه الحمى الصفراء والدسنتاريا، وإذا أقام بها الأوروبيون فتكت بهم هذه الأمراض فتكاً ذريعاً. أما الزنوج فيمتازون بحصانة طبيعية ضد هذين المرضين، ولهذا استخدمت فرنسا فيها عساكر منهم جندتهم لهذه الحرب خاصة من مستعمراتها». وأضاف: «خطر بفكر نابليون الثالث أن يرجو سعيد باشا، والي مصر في ذلك الحين، أن يمده بالاي من الجنود السودانيين. فقبل سعيد باشا رجاءه غير أنه لم يرسل سوى أورطة مؤلفة من 453 جندياً، بين ضباط وصف ضباط وعسكر». واستعرض طوسون في كتابه «ما قامت به (الكتيبة) في هذه السنين من الأعمال المجيدة»، على حد تعبيره. |
يستهل الكاتب المصري حكاية «كتيبة سوداء» التي صدرت عن دار الشروق، من عام 1863، بتصوير كيف تم تجميع «الأورطة»، بعدما طلب المستشار الفرنسي ديليسبس من الخديوي سعيد (حاكم مصر والسودان حينها) أن يرسل في سرّية تامة كتيبة تتحمل «الحمى الصفراء» والوباء الذي يحصد الجنود الفرنسيين في المكسيك، ليقمعوا التمرد في ذلك البلد الذي لا يهدأ، ويخرجوا من معركة إلى أخرى، ويصيروا آلات للقتل في تلك الأرض البعيدة، وهم لا يعرفون لصالح من يحاربون.
محطات الدم
البداية كما العديد من محطات الرواية لا تخلو من الدم والقسوة، إذ تصوّر كيف اقتلع بعض هؤلاء الرجال من قراهم البعيدة، وكيف كانوا ضحايا صفقات بين سلطان و«جلّاب عبيد» (عشرة رجال مقابل بندقية) ليودّعوا بعد الصفقة، الحرية والطمأنينة، ويجبروا على الانضمام إلى تلك الكتيبة عقب تدريبات طويلة على فنون الحرب والقتال.
توسّع «كتيبة سوداء» الدائرة، تنتقل بين جهات الأرض، جنوباً وشرقاً وغرباً؛ فمؤامرات الشمال في الأغلب يدفع أثمانها الجنوبيون، إذ تعرض الرواية ما تتخيل ما دار في دهاليز قصور إمبراطورية، ووشائج النسب ما بين قصري باريس وفيينا، وما صنعه «نابليون الثالث» وترشيحه أخاه لكي يتولى عرش المكسيك، ويتنازل عن حقه في وراثة ملك فرنسا، ليذهب إلى بلد تأكله الحروب، بلد «يمتد من صحراء أريزونا حتى أدغال غواتيمالا، سهول خصبة وغابات مطيرة ومساقط للمياه ومناجم الذهب والفضة، فواكه استوائية، بن وتبغ وكاكاو».
يمزج مبدع «قمر على سمرقند» في روايته الجديدة، بين قصص القادمين من غابات إفريقيا، والساكنين قصور أوروبا، ومن بعدها المكسيك، يخصص فصلاً لهؤلاء وآخر لأولئك، ولا تلبث المساحات أن تمتزج بعدما تداخلت المصائر، وصار أفراد الكتيبة السوداء مسؤولين عن حماية الإمبراطورة، وتأمينها، ووفق ما تخيلته الرواية، صار أحد الجنود «الزنوج» مرافقاً للإمبراطورة كظلها، حتى على سريرها، في لحظات متوترة يمتزج فيها العشق بسواه من المشاعر، ولا تخلو من جنون ما تصل إليه الإمبراطورة بعد حين، ولكن ينجو منه الجندي (العاصي) الذي يستقر في فرنسا، إذ لا مجال للعودة إلى الجنوب، بعدما تغير فيه كل شيء، حتى اسمه.
نهايات
تبدو رواية «كتيبة سوداء» مهمومة بمصائر الجميع؛ تعنى بطرف من سيرة من ماتوا خلال الرحلة، وأيضاً من عادوا سالمين، وحتى من اختاروا «أوطاناً بديلة»، ورفضوا الرجوع، وترسم قبل النهاية مشاهد لتكريم أفراد الكتيبة، أولاً في فرنسا، بعدما استقبلهم نابليون، ثم في مصر من قبل الخديوي الجديد (إسماعيل)، الذي فكر في إبعاد هؤلاء المدربين على فنون الحرب «عن مركز الحكم، نقلهم جميعاً إلى السودان النائية. لم يدرِ أن بلاده ستصبح هي أيضاً فريسة لاحتلال الغرباء، وسينتهزون حجة إفلاس الخزينة لاحتلالها، الحجة نفسها التي استخدموها من قبل وهم ينهبون (مكسيكاً)، ولكن بدلاً من الفرنسيين سيأتي الإنجليز».
نهاية العائدين من المكسيك، الناجين من أهوال حروبها، كانت في الجنوب، إذ دفع كثيرون منهم حياتهم ثمناً لطموح الخديوي الحالم بضم ممتلكات في مجاهل أوغندا: «الموت كان مترصداً خلف كل شجرة، حصدتهم جميعاً، لم ينجُ أحد، وماتوا ناقصي أعمار في زمن كان من النادر أن يكتمل عمر أي شيء».
ومن أجواء الرواية: «في الليل يرقد (جوفان) على الأرض المليئة بالحصى، أخيراً يتمكن من رؤية النجوم وهي تتألق وتخبو، منذ ساعات قليلة كان يعتقد أن نهايته ستكون وسط هذه القلعة المتعفنة، الآن يستطيع أن يحلم بانتهاء هذه الحرب اللعينة والعودة إلى قريته في أسوان، يبتعد عن الناس الذين يكرهونهم، يعود حيث لا حرب ولا قتال، في الصباح كان هناك جواد أسود له غرة بيضاء في انتظاره، هذا هو الجواد الذي اختاره له القائد، يضع السرج على ظهره، يمتطيه دون مساعدة من أحد، يحمحم الحصان محتجاً، يلكزه حتى يسير، يرغمه على السير ببطء وسط خيام الجنود النائمين، يسرع قليلاً عندما يخرج من المعسكر، يشعر بالهواء يملأ صدره، يسرع الجواد متجهاً إلى شاطئ البحر، يبدو الموج رمادياً وغامقاً، وتظهر قلعة أولوا بين الضباب الهش، خفاش جاثم على صدر الموج، يسرع الحصان أكثر مما يطيق، يخيفه غضب البحر، يعيد (جوفان) جذب اللجام، يقوس الحصان جسده ويدفعه من فوق ظهره، يسقطه سقطة هائلة ويتناثر الماء حوله، يتماسك حتى ينهض واقفاً، يبصق الماء المالح والرمل...».