مساكن من الحجر عند سفوح جبال رأس الخيمة

«بيت القفل».. فن هندسي وقصة كفاح

صورة

«بيت القفل» هو مسكن بناه أبناء القبائل في رأس الخيمة من الحجر، عند سفوح الجبال منذ مئات السنين، ليكون المأوى الآمن لهم في مواجهة الأخطار التي كانت تتهددهم، مثل قطاع الطرق، والمصاعب المعيشية البيئية والمناخية، ليبقى بعد الطفرة الاقتصادية معلماً يحكي قصة كفاح من أجل الحياة، وصفحة مضيئة في تاريخ الوطن.

واللافت أن بيوت القفل تقع عند سفوح الجبال برأس الخيمة، ونتيجة ذلك يكون الوصول إليها مهمة شاقة مصحوبة بكثير من المصاعب، وخلال الرحلة إلى تلك البيوت يتكبد المرء وعثاء السير، عبر الدروب الجبلية الوعرة، حيث الأحجار المسنونة، والأشجار الشوكية، وربما الزواحف السامة، ناهيك عن الإرهاق البدني بسبب الصعود والنزول لمسافات بعيدة، ما يستوجب التوقف مرات عديدة، لأخذ قسط من الراحة.

بقايا رماد

على امتداد سلسلة الجبال، التي منحت رأس الخيمة أعلى قمة جبلية، تتمثل في «جبل جيس»، الذي تسعى الحكومة جادة إلى تحويله منتجعاً سياحياً عالمياً، تتوزع بيوت القفل التي تبدو صامدة كالجبال، تتحدى عوادي الزمن، ومن يراها للوهلة الأولى يعتقد أن ساكنيها قد رحلوا عنها للتو، فمثلا لايزال موقد النار في مكانه عند مدخل بيت القفل، وهو عبارة عن حفرة صغيرة تحيط بها أربعة أحجار، تتوسطها بقايا قطع خشبية التهمت النار أجزاء منها، ومن تحتها كومة رماد، فشلت الرياح في بعثرتها، بالإضافة بعض الأواني الفخارية، ومعاول الحفر، وتقطيع ونشر الخشب.

دحرجة الصخور

المواطن علي بن راشد محمد الظهوري، يبلغ من العمر 92 عاماً، هو أحد بناة بيوت القفل، وقد وصفها بأنها تعد هندسة معمارية راقية، مشيراً إلى أن بيت القفل هو عبارة عن غرفة واحدة، تتشكل جدرانها من الصخور الجبلية الضخمة والحصى المرصوص بإتقان، ورغم صغر مساحتها، فإنها تستوعب جميع أفراد الأسرة، ومصممة من غير شبابيك، عدا فتحة صغيرة أشبه بالثقب أعلى الباب لدخول الهواء، أما سقف البيت فيتكون من الخشب المقاوم للظروف المناخية والآفات، والأنسب لذلك هو شجر السدر والسمر والشريش، المتوافرة في الجبال، بينما تستخدم النبتة المسماة «السخبر»، وأيضاً شجرة «السداف» في عملية سد الفراغات، التي تكون بين القطع الخشبية، ويستفاد من الحصى صغير الحجم المسمى «صفي» في تثبيت خشب السقف من الجانبين، ومن بعد ذلك يغطى السقف بطبقة كثيفة من الطين، كما تبرز على امتداد السقف الصخور التي تسمى «القشع»، وهي متوسطة الحجم، ومهمتها حماية السقف من مياه الأمطار.

ويتابع «تستغرق عملية بناء بيت القفل شهرين أو ثلاثة أشهر، ويشارك فيها نفير من الأهالي، حيث يقوم بعضهم بمهمة جمع الصخور، وغيرهم يقدم المساعدة للمشرف على عملية البناء، وآخرون تسند إليهم مهمة توفير الأكل والماء».

ويضيف الظهوري أن الغرفة في بيت القفل تكون منحدرة إلى الأسفل بعمق قدمين أو ثلاث أقدام، بينما فتحة الباب صغيرة ما يستدعي الانحناء عند الدخول إلى الغرفة، ونتيجة لتلك المواصفات يؤدي البيت الهدف منه كمصدر للدفء في موسم الشتاء القارص، حيث تنخفض درجة الحرارة إلى أربع درجات مئوية.

وقال «إذا تركنا مبنى بيت القفل جانباً، فإننا نتحول إلى الباب الذي لا يقل صلابة عن المبنى، فهو مصنوع من أشجار السدر المنتشرة في المنطقة الجبلية، ويتمتع بأسرار تصنيعية تجعله عصياً على الفتح لغير صاحب البيت، فالمفتاح يعد لغزاً محيراً وهو عبارة عن قطعة حديدية طويلة، تعمل بدقة متناهية، وفي حال فقدانه فإن الحل الوحيد يكون كسر الباب، وتلك المواصفات تمنع اللصوص وقطاع الطرق من الدخول إلى البيت».

وحول طريقة التعامل مع الصخور الضخمة، يقول الظهوري: تستخدم في عملية بناء بيت القفل شتى أنواع الصخور، ولكل منها مكانها المناسب في الجدار أو السقف، وفي الأغلب تكون الصخور الضخمة في المراحل الأولى لتقوية المبنى، لكن قبل البدء في البناء يقوم أشخاص، بمعية الشخص الذي سيتولى مهمة بناء بيت القفل، بجولة في جبال المنطقة المجاورة، لتحديد الصخور التي يمكن استخدامها في عملية البناء والعمل على جلبها، فبعض تلك الصخور بأوزان تسمح بحملها على الأكتاف، أما الضخمة فكان يتم تحريكها بواسطة الأعمدة الخشبية ذات الصلابة، وبالطبع هي عملية شاقة، خصوصاً عندما تكون من مناطق بعيدة، وفي أماكن ذات تضاريس قاسية.

هموم الحياة

يحدثنا سعيد عبدالله الظهوري، وهو يدخل بيت القفل الذي عاش فيه طفولته، قائلاً: «لا يختلف اثنان على أن أبناء القبائل، الذين عاشوا في المناطق الجبلية، تكبدوا مصاعب حياتية لا حصر لها، والتي لم تقتصر على بناء بيوت القفل فقط، وإنما أيضاً في تصريف جميع شؤونهم المعيشية، فقد أجبروا على حمل الصخور بسواعدهم وعلى أكتافهم، وجاؤوا بالماء وحطب الطبخ على رؤوسهم، وأثبتوا بذلك أنهم أشداء وأصحاب عزيمة لا تفتر».

ويشرح «إلى جوار بيت القفل توجد متطلبات الحياة المعيشية، فمثلاً من ناحية الباب توجد مجموعة صخور مرصوصة على الأرض، تسمى (إطلالة)، وهي مخصصة لجلوس الأسرة عليها، وغير بعيد من البيت صخرة محفورة تسمى (اليبيه)، ويستفاد منها في طحن الحبوب والأعشاب الدوائية، بالإضافة إلى (الرحى)، التي تستخدم في طحن الحبوب، وصخرة مسطحة لغسل الملابس».

وعن طبيعة حياة الأسرة في بيت القفل في ذلك الزمان، نظراً لعدم وجود ما يشغل أفراد الأسرة ليلاً أو يدفعها إلى السهر مثل التلفزيون والراديو، فقد كانوا يلجأوون إلى النوم بعد صلاة العشاء مباشرة، وفي الصباح الباكر تستيقظ المرأة مبكراً، وبعد أن تؤدي صلاة الفجر تشرع في إعداد وجبة الأفطار، التي تتألف من خبز التنور، ومن بعد ذلك تنطلق في أداء واجباتها الأسرية الأخرى، مثل جمع الحطب، وجني الثمار من الأشجار التي تنبت في الجبال والنباتات الطبيعية، مثل الحماض والخس، والأعشاب التي تستخدم كأدوية علاجية للأمراض، وإحضار الماء من الرق، ورعاية المواشي، وطحن الحنطة.

تويتر