«رائحة حرب» عراقية.. في مهرجان المسرح العربي
لأسباب لم يفهمها جمهور «مهرجان المسرح العربي»، وجدت مسرحية الفنان السوري أيمن زيدان «اختطاف» نفسها خارج المنافسة الرسمية، في مقابل وجود أعمال أخرى، لم تُقابل بالاحتفاء ذاته، وكان جمهور كبير غادرها قبل ختامها، أو حتى بعد دقائق من استهلالها.
عزيز خيون: المسرح يجمع قال الفنان العراقي، عزيز خيون، إن هناك مساحات عظيمة دوماً لمزيد من التعاون بين المسرحيين العرب في أعمال واحدة، لا تعترف بأحادية أو حتى ثنائية القطر المنتج لها. وأعاد خيون إلى الأذهان اللقاء العربي الكبير في مسرحية «واقدساه»، التي جمعت 10 دول عربية، مضيفاً «المسرح يجمع ولا يفرق، لذلك أتمنى أن تتواصل جسور التعاون العربي في مجال المسرح». وتعليقاً على فكرة مسرحية «رائحة الحرب»، التي لعب إلى جانب الممثلة عواطف نعيم الدور الرئيس فيها، وشهد نصها تعاوناً تونسياً عراقياً، قال خيون «المسرح من وجهة نظري زاخر دوماً بخيانات بريئة وجميلة للنصوص الأصلية». الذهاب إلى العتمة قال مخرج المسرحية الأردنية «شواهد ليل»، الفنان خليل نصيرات، إنه لم يسع في عمله إلى إجابات أو حتى مجرد طرح أسئلة، بقدر ما عناه الذهاب إلى العتمة التي تعيشها فئة في المجتمع الأردني، وهي شريحة مجهولي النسب. وأكد نصيرات أنه توجه أيضاً بعمله إلى المجتمع، مضيفاً: «إضافة إلى الحاجة الماسة لوجود تشريعات بهذا الصدد، فإن فعل المساندة والاحتضان والتقبّل من قبل المجتمع هو الأولى، بدلاً من نبذ ومحاكمة هذه الفئة الضحية». • «شواهد ليل» أردنية تطرح قضية مجهولي النسب. |
وكان العرض السوري، الذي تحلى بروح مزجت بين السخرية اللاذعة والمسحة الكوميدية، قد استلهم مسرحية للإيطالي داريو فو، احتفظ زيدان بأسماء شخوصها نفسها، لكنه منحها التفاصيل السورية المعاصرة، والأهم بصمته الإخراجية الخاصة.
في المقابل، شهدت مسارح مختلفة في تونس عروضاً عدة، ضمن فعاليات المهرجان، منها عرض «شواهد ليل» الأردني، تأليف وإخراج خليل نصيرات، وكذلك «رائحة حرب» العراقية، من إخراج يوسف البحري ومثال غازي، عن رواية لأكرم مسلم، والمسرحية المغربية «الخادمتان»، للمخرج العراقي جواد الأسدي، وتأليف جان جينيه، التي عاد بها بعد تجارب مع مسارح عربية عديدة، ليقدمها مغاربية هذه المرة.
بدأت العروض بالمسرحية السورية، التي رأى البعض أنها بمثابة سهرة مسرحية مثالية بكل المقاييس، تجمع إلى جانب الاستمتاع بالعرض، وبأداء الممثلين، وتعايشهم الإيجابي مع تفاصيل النص ومؤداه، إيصال رؤية إخراجية غير ملتبسة، وغير بعيدة عن واقع، يتلمسه المتابع للشأن السوري، ولو من خلال شاشات التلفاز، ووسائل الإعلام المختلفة، ولكن هذه المرة عبر صيغة جمالية مخلصة لأدوات المسرح وخصوصيته. يقوم العرض على شخصيتين رئيستين، لعب دورهما ممثل في دور «أجيللي»، الرجل البرجوازي المالك لمعامل سيارات «فيات» في إيطاليا، وأنطونيو العامل اليساري في أحد معامل الأول، يحاول بعضهم اغتيال أجيللي، ويكون أنطونيو بالمصادفة في مكان الحادث مع عشيقته، ليحاول إطفاءه برمي سترته الجديدة عليه والهرب خوفاً من اتهامه بقتل هذا الرجل، دون أن يعلم بأنه ينقذ أكثر من يكره في هذا العالم، سرعان ما تتعرف زوجة أنطونيو إلى أجيللي على أنه زوجها بعد تشوَّه وجهه بالكامل، وذلك بفضل الوثائق في جيب سترته، ليتم تجميل وجهه باعتباره أنطونيو، ليغدو رجل الرأسمالية داخل جلد الرجل اليساري أنطونيو.
وفي أجواء ساخرة، تحدث العديد من المفارقات، والإيماءات السياسية، التي لجأ في محاولات تمريرها، قفزاً على فكرة الرقيب، إلى الكثير من القفشات، التي وقعت في فخ خدش الحياء مرات عديدة، لكن المخرج كان فيما يبدو مشغولاً بإيجاد حلول تُمكن العمل من الاحتفاظ بمضمونه ذي الغمز السياسي، الذي يكاد يكون مكشوفاً، لولا كل هذا الغبار من القفشات، التي ربما تكون أدت دوراً إيحائياً مضللاً للرقيب، لاسيما أن العمل من إنتاج المسرح القومي السوري. وبالروح الساخرة ذاتها التي سيطرت على العمل، تم بناء ديكور «اختطاف»، الذي ظل مشهده الرئيس مستشفى تابعاً لأملاك أحد كبار رجال الأعمال، الذي يمثل وجود الشركات العابرة للقارات، بكل ما تمثله من تحكم في اقتصادات العديد من الدول، لكن مقتنيات الديكور جاءت على شكل قطع غيار السيارات، لتوحي بمزيد من سيطرة الآلة، وغياب العاطفة، في شتى المجالات، بما في ذلك مجال التداوي والطب، الهادف إلى الربح، ولو على حساب حياة البشر، وسلامتهم، تماماً كالساعين لربح المعارك الحربية. ووصل العمل ذروته بإعلان اختطاف رجل الأعمال الشهير، في موازاة مشهد موازٍ، نسجه المخرج من شاشات التلفاز العالمية، ليوضح التناقض في الفكر السياسي المعاصر، الذي فضّل الانصياع لشروط الجهة المختطفة، فقط، نزولاً عند سطوة وسيطرة نفوذ الرجل المزعوم اختطافه، في الوقت الذي كان الأمر كله مجرد قصص مختلقة، يحركها الشخص ذاته، لتتم محاكمة من قدم إليه المساعدة بالأساس، في مشهد قصد زيدان سحبه على الواقع السياسي السوري، وما يشوبه من مغالطات وادعاءات ومؤامرات.
وجاء أداء الممثلين: لوريس قزق، نجاح مختار، أنطوان شهيد، توليب حمودة، خوشناف ظاظا، مبهراً، ومتكئاً على إمكانات ثرية، في الوقت الذي اقتصد فيه المخرج بشكل كبير في استخدام السينوغرافيا، وهو اقتصاد صب في مصلحة العمل، الذي أراده زيدان أقرب إلى المحتوى الدرامي المكثف، وكأن المسرحية من مستهلها حتى نهايتها كتلة واحدة تنساب بهدوء وروية إلى موقع يضمن من خلاله وصول مغزاه إلى قلوب الجمهور.
من جهة أخرى، استضاف مسرح «الفن الرابع» في العاصمة التونسية العرض الأردني «شواهد ليل»، الذي سعى إلى عكس تناقضات ما يدور في الواجهة الخلفية المعتمة للمجتمع، بطرحه قضية «مجهولي النسب»، عبر التركيز على حالات يعيشها فتى وفتاة مجهولا الهوية، ترمي بهما الحياة إلى قارعة الطريق، بلا مأوى، أو حتى اسم. ومثّلت سيارة قديمة العنصر الرئيس في ديكور «شواهد ليل»، باعتبارها الملاذ للشخصيتين، قبل أن يصلا الى أزمة حقيقية، كان الرجل فيها منسجماً مع نظرة مجتمعية سائدة، رآها المخرج غير منصفة لهما، حيث رفض الاعتراف بنسب فتاة شارع، باعتبار أنه لا يثق بشخص «مجهول النسب».
هذه الحالة من الثبات، خصوصاً مع بطء إيقاع العمل، لم تمكن «شواهد ليل» من الاحتفاظ بجزء مهم من جمهورها داخل القاعة.
وفي عمل آخر، وهو «رائحة حرب»، استمرت الأعمال العراقية المستضافة في مهرجان المسرح العربي على منوال القضية الأهم لدى المجتمع العراقي، وهي الحرب التي تفتك بأوصال أرض الرافدين، ولكن هذه المرة عبر نص عراقي تونسي، ولوحات متبدلة، نجح الفنان القدير عزيز خيون في إيصال مضمونها الدرامي باقتدار، ليدور العمل ضمن مجموعة الالتباسات التي نعيشها، ومن بينها الالتباس الديني والالتباس السياسي والالتباس الأخلاقي، من خلال قصة لقاء أسير فلسطيني بابنه، ليشعر الطفل بالالتباس الناجم عن شعوره بأنه هو السجين الفعلي وليس الأب.