أكد أن القائد المؤسس اعتمد أسلوب البناء الهادئ للانتقال إلى دولة المؤسسات

فالح حنظل: زايد كان يتمــتع بـ «كاريزما» نادرة

صورة

أكد الباحث في التاريخ والتراث الإماراتي، الدكتور فالح حنظل، أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عمل على بناء العقل الجديد للإنسان الإماراتي، مسخّراً ما تعلمه من أسس القيادة في البيت الحاكم الذي نشأ فيه، والذي كان بمثابة المدرسة التي تخرج فيها، وتعلم كيف يستمع للناس، ويتعامل بتواضع معهم، باعتباره واحداً منهم، إلى جانب ما كان يتمتع به من «كاريزما سياسية» نادرة.

نظرية تعادلية

لفت الباحث في التاريخ والتراث الإماراتي، الدكتور فالح حنظل، إلى أن الشيخ زايد حافظ على نظرية تعادلية، تقوم على أخذ أفضل ما في الحضارة الغربية من طب وهندسة وعلوم تطبيقية وغيرها «كما حافظ على التراث والتمسك بالدين الإسلامي، والمحافظة على عروبتنا وقيمنا وثقافتنا، وهو ما نشاهده حتى الآن، رغم كل مظاهر المدنية الحديثة».


- الشيخ زايد كان يعمل ثم يعلن عما قام به، لذا كان البناء في الإمارات أسرع من الإعلام.

- الشيخ زايد كانت لديه المقدرة على حسن اختيار مستشاريه، وهي هبة وهبها الله له.

وأضاف أن الشيخ زايد، رحمه الله، اعتمد أسلوب البناء الهادئ للانتقال من حكم الإمارة البسيط إلى دولة مؤسسات وفق أحدث النظم العالمية، وجمع خلال ذلك بين الحداثة والتنمية والتراث الأصيل والثقافة العربية.

وتفصيلاً، قال حنظل، في حوار لـ«الإمارات اليوم»: «حضرت إلى أبوظبي في أواخر 1968، حينها كنت مديراً لشركة حفر آبار المياه، التي كانت مكلفة بحفر 70 بئراً في المنطقة الصحراوية التي تقع بين أبوظبي والعين، وكانت قاحلة وجرداء في ذلك الوقت، ولم يكن فيها إلا نحو 200 نخلة ضعيفة البنيان، وعدد مماثل من أشجار الغاف، وما يقارب تسع آبار مياه، حفرها الأولون لتشرب منها قوافل المسافرين على الطريق، وتأخذ قسطاً من الراحة وسط الأشجار المحيطة بها، نظراً لأن الطريق كان يستغرق أربعة أيام سفر».

في حضرة زايد

وأضاف: «اخترت موقعاً وسطاً بين أبوظبي والعين، قريباً من منطقة أبوسمرة، ليكون مقراً للشركة، وبدأت حفارة تعمل في اتجاه أبوظبي وأخرى في اتجاه العين، وبعد فترة كان اللقاء الأول الذي جمعني بالشيخ زايد، رحمه الله، وكان في عيد الفطر، حيث وقفت مع مجموعة من المهنئين، وهم بالمئات من مختلف الجنسيات، على باب القصر القديم، وكان الشيخ زايد يقف مستقبلاً المهنئين، وكلما اتجهت خطوة باتجاهه كنت أحاول أن أدرس ملامحه وشخصيته، فكان يبدو عليه من الوهلة الأولى أنه فرح باللقاء، مرحب بالناس، وقد ارتسمت على وجهه نظرة الحب وهو يرحّب الناس، بينما عكست ملامحه سمات القيادة والعزيمة والحنان في الوقت نفسه، أما كف يده فقد كانت كف رجل اشتغل بيديه وتمرس في العمل، ومن المعروف أن الشيخ زايد شارك بنفسه في حفر فلج الصاروج في العين، وهي أيضاً اليد القادرة على حمل السلاح».

وتابع حنظل: «التقيت بعد ذلك بالشيخ زايد أكثر من مرة، منها عندما كنت أباشر حفر بئر في الموقع الصحراوي في نحو الـ10 صباحاً، وإذا بسيارة جيب عسكرية تقف أمامي، وتتبعها أخرى مدنية، ونزل من السيارة العسكرية جندي فتح باب السيارة الأخرى، وأدى التحية العسكرية النظامية قائلاً: (شلونك زايد)، فمن العادات العربية أن يحيي العرب الشيوخ دون استخدام لقب، وهنا جمع العسكري بين التحية الرسمية والتقاليد العربية». وأكمل: «سألني الشيخ زايد عن عمق البئر، فقدّرت أن الماء العذب يمكن أن يظهر على عمق 30 متراً، فسألني متى أتوقع ظهور الماء، فأجبته بأنه عند عودته إلى أبوظبي سيجد الماء قد ظهر. وبعد يومين أو ثلاثة فوجئت بالسيارة تقف أمام الموقع، والشيخ زايد يسألني عن الماء، ثم أخذ غرفة منه بيده، وتذوقه ليتأكد من عذوبته، ثم سألني عن موقع البئر الثانية التي سنحفرها، فأخبرته بأنها ستكون عند استراحة الخزنة، فقال: سأمر عليكم هناك. وبالفعل زارنا خلال الحفر، وأمر أن نبني نافورة ماء في مكان البئر، ونفذنا أوامره، وبنينا نافورة، راوح ارتفاع الماء فيها بين ثلاثة وأربعة أمتار، وأقبل الأهالي عليها للحصول على الماء، وأصبحت السيارات تقف عندها لتملأ من مائها، كما استقبلنا زواراً آخرين من الإبل التي تهيم في الصحراء لا صاحب لها، والحمير الصحراوية، وحتى الزواحف، كالعقارب والثعابين، وأنواع من العناكب الضخمة». وواصل «كان الشيخ زايد، طيب الله ثراه، عندما يزور الموقع يجلس معي، ويسألني عن العراق وعن حمورابي وأبي نواس وتاريخ العراق، كما كان البدو المقيمون في المنطقة يحضرون للسلام عليه، ويلقون أشعارهم العامية أمامه، وهذه الجلسات فتحت لي الباب لأصادق الشعراء الأوائل، وأجلس معهم وبيدي ورقة وقلم، محاولاً التقاط أشعارهم، وهو ما فتح لي بعد ذلك عالم البحث الميداني في مجال القضايا التاريخية والتراثية».

وتحدث حنظل عن جهود الشيخ زايد، رحمه الله، في تأسيس الدولة، قائلاً «هناك الكثير مما يجب أن يتحدث به المرء عن زايد، الذي لن تكفيه عبارات المديح، فليست هناك كلمات للمديح يمكن أن تصف بحراً يحوي كنوز الدنيا»، لافتاً إلى أن «عدد الكتب التي صدرت عن الشيخ زايد حتى الآن بلغ 180 كتاباً، وهي متشابهة بصفة عامة، فالناس تفضّل الحديث عن المظاهر المرئية، وكيف انقلبت الرمال إلى ناطحات سحاب، بينما يظل الأهم هو فهم الفلسفة الإنسانية في نشوء الدول والأمم، والتعرف إلى فلسفة زايد في الانتقال من حكومة الإمارة البسيطة إلى دولة مؤسسات وفق أحدث النظم العالمية، وأيضاً فهم فلسفة زايد في بناء العقل الجديد والوعي الجديد لابن الإمارات الجديد عقب قيام الاتحاد».

وأوضح حنظل أن «الشيخ زايد، طيب الله ثراه، تولى حكم أبوظبي، وكانت تعتمد وقتها على حكومة الإمارة الممثلة في شخص الحاكم الذي يمسك بزمام الأمور، ولم تكن هناك وزارات أو هيئات أو مجلس تشريعي، فعمل على إيجاد مؤسسات تعمل بطريقة علمية، وهنا تتجلى فلسفة الشيخ زايد في البناء الهادئ، فكان رحمه الله يعمل ويبني ثم يعلن عما قام به، لذا كان البناء في الإمارات أسرع من الإعلام، على عكس كثير من الدول التي يسبق فيها الإعلام البناء، كما ظهرت في تلك الفترة مقدرة الشيخ زايد على حسن اختيار مستشاريه وإدارتهم، وهي هبة وهبها الله له، فقد كان عدد المتعلمين من أبناء البلد لا يكفي خطط البناء والتنمية الطموحة التي سعى الشيخ زايد لتحقيقها، فاستعان بمستشارين من بلدان عربية وأجنبية مختلفة، وكان كل منهم يعلم أنه أمام شخص يراقب كل ما يجري، وهو المرجع لكل ما يدور حوله». وذكر حنظل أن «فلسفة الشيخ زايد البنائية قامت على الحداثة والتنمية، إذ تمثلت الحداثة في الاستعانة بالمخترعات والتقنيات الحديثة، وما تنتجه الحضارة العالمية لتطوير الحياة، أما التنمية في فكر زايد فتمثلت في كيف يجعل الحضارة تتفاعل مع ضمير الشعب، دون أن يستكين إلى حياة الراحة، مدركاً أنها قضية وعي في المقام الأول، والعلم هو الوسيلة لتحقيق هذه المعادلة، فبدأ مسيرة العلم على الفور، وما صاحبها من تنمية اجتماعية».

وقال حنظل: «الحديث عن زايد يطول، لأنه قصة بناء، وقضية بناء الدولة والإنسان الجديد، وهي عملية صعبة، لا يكفيها امتلاك المال فقط، فهناك من امتلكوا المال وأحرقوا بلدانهم بالحروب. في المقابل، عندما تولى الشيخ زايد لم يكن هناك سوى عدد محدود جداً من رجال الشرطة، بتدريب متواضع على أمور الحراسة والعسس، والآن أصبحت الإمارات دولة الأمن والأمان، تتعايش فيها مختلف الجنسيات، كذلك كان الإماراتي لا يعمل في شركات البترول سوى في وظائف هامشية، أما الآن فهناك العديد من المؤسسات النفطية التي يديرها إماراتيون، يجرون يومياً عمليات بملايين الدولارات، وهي نتيجة عمل زايد على بناء العقل الجديد للإنسان الإماراتي، مسخراً ما تعمله من أسس القيادة في البيت الحاكم الذي نشأ فيه، وكان بمثابة المدرسة التي تخرج فيها، وفيها تعلم كيف يستمع للناس، ويتعامل بتواضع معهم، باعتباره واحداً منهم، إلى جانب ما كان يتمتع به من (كاريزما سياسية) نادرة».

تويتر