كعك القدس.. رائحة تكفَّل التاريخ بالحفاظ عليها
مع بزوغ فجر كل يوم جديد، يشعل الحاج عبدالله أبوسنينة النار في فرن يُطلق عليه بيت النار العربي المكون من الطين، وهو من المعالم التراثية القديمة، ليحضر عجينة الكعك المقدسي بخلطته الخاصة، فيما تمتزج رائحتها بعبق التاريخ، الذي يفوح من بين جدران مخبز باب حطة، الذي يمتد عمره إلى أكثر من 100 عام مضت.
بعد أن يصبح الكعك جاهزاً بشكله المحمَّر والمزين بالسمسم المحمص، يستعد أبناء الحاج أبوسنينة لنقله بواسطة عربات خشبية إلى أماكن متفرقة في البلدة القديمة، بين الأزقة والحواري، وعند مداخل أبواب المسجد الأقصى وأسواره.
هذه الصورة اعتادها الحاج الستيني أبوناصر، منذ أن كان في العاشرة من عمره، إذ ورث المخبز والمهنة عن والده، وبقي حتى يومنا هذا يخبز الكعك ويبيعه في الفرن العتيق ذاته، على مدار 50 عاماً.
ويعرف المقدسيون فرن أبوسنينة في باب حطة كأقدم أفران المدينة القديمة البالغ عددها 28 مخبزاً، والمنتشرة داخل أسوارها التاريخية، خصوصاً في طريق الواد، وحارة النصارى، وباب حطة، وحارة الشرف، إذ تتوافد عليها أجيال المدينة قبل أكثر من قرن من الزمان، لشراء وجبة الفطور الأشهر في القدس، وهي الكعك بالسمسم.
سر المذاق
«الإمارات اليوم» التقت الحاج عبدالله أبوسنينة (أبوناصر)، داخل مخبزه الذي يعد إرثاً حضارياً يرتبط بتاريخ المدينة المقدسة، حيث كان يقف بجانب فرن الطين يراقب بنظراته حبات الكعك التي أدخلها بيت النار، فيما يساعده أبناؤه في إعداد الكعك وخبزه، وتوزيعه للبيع في شوارع وحارات البلدة القديمة.
يقول الحاج أبوناصر، وقد خطت تجاعيد وجهه تاريخ البلدة القديمة، إن «والدي، رحمه الله، ورث مخبز حطة عن والده، الذي أنشأه عام 1910، ومنذ نعومة أظافري كنت أساعد الوالد في المخبز، وورثت صناعة الكعك عن والدي منذ الصغر، كنت أحضر للمخبز وأنا في سن العاشرة، وأساعده في تحضير الكعك لتوزيعه على البائعين المتجولين في البلدة القديمة وأبوابها وأحيائها، حتى تشربت المهنة كاملة، ليكون ذلك المخبز هو رأسمالي بعد رحيله».
ويضيف: «سيظل مخبز حطة قائماً كما هو في باب وشارع حطة، اللذين يعدان معلمين من معالم القدس، وستكمل أجيال عائلة أبوسنينة المشوار في خبز وصناعة الكعك المقدسي، لنحافظ عليه كإرث مرتبط بتاريخ القدس وسكانها».
ويؤكد أبوسنينة، صاحب مخبز حطة، أن كعك القدس يتميز عن غيره في المدن الفلسطينية كافة، لكن العجيب أن مكوناته هي ذاتها المستخدمة في الكعك المصنوع بالمدن الأخرى، فهو يصنع من الماء، والطحين، والسكر، والسمسم، والحليب الدافئ. ومن بين أسرار مذاق كعك القدس، بحسب أبوسنينة، أنه يعود إلى نشأته داخل البلدة القديمة، فالمخابز العتيقة في البلدة مازالت تستخدم حتى اليوم الفرن العربي (بيت النار)، والذي يعود تاريخه إلى مئات السنين، وهي ذاتها التي كان يستخدمها أصحاب الأفران القدامى في القدس. ويشرح الحاج أبوسنينة طريقة إعداد كعك القدس، قائلاً: «أبدأ بتحضير عجين الكعك من الليلة التي تسبق خَبزه، فأضع المكونات في ماكينة العجين، وما إن تختلط جميعها ببعضها بعضاً، حتى أقطع العجين قطعاً دائرية، لأبسطها على الخشب واضعاً عليها السمسم، وأقفل الكعكة وأضعها في الطرحة في عملية متتابعة، وفي النهاية أترك العجين خمس ساعات حتى يتخمر».
ويضيف: «عند الساعة الخامسة فجراً، أشعل الحطب في فرن بيت النار، وأضع الكعك على عصا خشبية تحمله إلى الفرن وتعيده، ليتم قلبه، فالكعك لا يحتاج إلى أكثر من 10 دقائق ليتم خبزه، ثم يوزع على بائعي الكعك الجائلين بين حواري وأحياء البلدة القديمة وبلدات وقرى القدس».
قِبلة الوافدين
يشتهر أهل المدينة المقدسة بعبارتهم القائلة: «كأنك لم تزرها إذا لم تتناول كعك القدس»، فمذاقه المصنوع بالأيادي المغموسة بين التاريخ والعجين، يبقى شاهداً حياً على عراقة المدينة المقدسة، وحاضراً في ذاكرة كل من تجول بين شوارع القدس وبلداتها الأثرية.
ويقول الحاج أبوسنينة، صاحب مخبز حطة، إن «الأفران القديمة في المدينة المقدسة تضفي جواً جديداً وجميلاً كل صباح على أهالي القدس، والوافدين لها، فالعرب خلال زيارتهم إلى البلدة القديمة، وتجولهم بين شوارعها وحواريها، يشمون رائحة منبعثة من بين الأزقة، تستهوي قلوبهم، فلن تحلو جولتهم إلا إذا تذوقوا كعك القدس». ويشير أبوسنينة إلى أن الآلاف يتوافدون إلى القدس وبلدتها القديمة من مدن فلسطين كافة، إلى جانب السياح لتذوق الكعك المقدسي صاحب المذاق الشهي. وحول المواسم الأكثر بيعاً للكعك المقدسي، يقول ناصر ابن الحاج أبوسنينة: «في كل يوم نشهد إقبالاً كبيراً على شراء الكعك من كل المتجولين والوافدين، فيما يعد شهر رمضان وأيام الجمعة أكثر الأوقات التي تشهد فيها مخابز البلدة القديمة إقبالاً كبيراً ومتزايداً من قبل الزائرين من القادمين للصلاة».
ويضيف: «على مر العصور توارثت العائلات الفلسطينية كعك القدس، فلن يحلو فطورهم إلا به، حيث يتناولونه مع الفلافل والزعتر والزيتون».
كعك في كل مكان
القادم من باب العامود قاصداً البلدة القديمة وشوارعها، والمتجول عبر طريق الواد في البلدة القديمة بين باب حطة وأسوار المسجد الأقصى المبارك، لابد أن تجذبه رائحة تفوح في أرجاء المكان، تلك راحة الكعك المقدسي الشهير، التي تكفَّل التاريخ بالحفاظ عليها على مر السنين.
ففي كل شارع وزقاق، وخارج بوابات الحرم القدسي الشريف وداخلها، وكل مكان يقصده المتجول في البلدة القديمة، سيجد الباعة الجائلين وهم ينادون بصوت عالٍ: «يا قدسي يا كعك، كعك القدس يا كعك»، في مشهد يدلل على تاريخ وحاضرة المدينة المقدسة، في وجه إجراءات التهويد التي تواجهها القدس يومياً.
الحاج زكي الصباح يبيع الكعك القدسي في منطقة باب الخليل بالبلدة القديمة منذ عام 1984، على عربة صغيرة مصنوعة من الخشب، فكل من تجول في البلدة القديمة حظي بمشاهدة هذا الرجل، وتذوق من يديه كعك القدس.
يقول الحاج الصباح، البالغ من العمر 64 عاماً، عن رحلته اليومية مع بيع الكعك القدسي: «بيع كعك القدس هو مهنتي منذ 35 سنة مضت، فعلى مدار تلك السنوات بقيت أذهب من ساعات الفجر الأولى إلى المخابز العتيقة في البلدة القديمة، لاستلام طرحتي من الكعك التي تم تجهيزها للبيع، ثم أضعها على رأسي متجهاً إلى باب الخليل، حيث أضع الطرحة الخشبية وسط ساحة تعج بالسياح الأجانب والوافدين العرب».
ويشير إلى أن مهنة صناعة وبيع الكعك المقدسي تحقق ضماناً ومصدراً للرزق لصاحب المخبز والبائع، نظراً لطلب الأهالي والمتجولين والسائحين الدائم للكعك المقدسي، مبيناً أن الحبة الواحدة من الكعك تعد وجبة مشبعة ويبلغ سعرها ثلاثة شيكلات (ما يساوي ثلاثة دراهم)، ما يعد دخلاً جيداً كحد أدنى للعائلات التي تعتاش على هذه المهنة.
مضايقات
كبقية أهالي وأصحاب المحال التجارية في القدس وبلدتها القديمة، لا يسلم صانعو الكعك وبائعوه من إجراءات الشرطة الإسرائيلية، المتمثلة في الملاحقات المستمرة لأصحاب البسطات، لمنعهم من البيع، وفرض الضرائب الباهظة على المخابز. الحاج الصباح، كما يعد نموذجاً لبائعي الكعك القدامى في البلدة القديمة، فهو أيضاً ضحية تلك الإجراءات، حيث إن بلدية إسرائيل في القدس تصادر بسطته بشكل مستمر وتطالبه بدفع مبالغ كبيرة، مقابل مخالفات متراكمة، حررها ضده موظفو البلدية، بسبب عمله كبائع متجول دون ترخيص، أو زجّه في السجن.
إجراءات الاحتلال تسببت في إغلاق عشرات مخابز الكعك.. ولم يبق سوى 28 مخبزاً بالأحياء القديمة.