صالح علماني جعل المترجم المهمّش نجماً.. ورحل
بكلمات حارّة من القلب، تليق بصاحب عطاء عاش يترجم في الظل حتى حاز مكانة خاصة في النور، ودّع مبدعون وأكاديميون، ودور نشر، وقراء عاديون، المترجم القدير صالح علماني الذي غاب أمس عن 70 عاماً.
ووصف الدكتور علي بن تميم رحيل علماني بأنه «يشكل خسارة للعربية نظير ما قدمه لها»، مضيفاً على «تويتر»: «30 عاماً قضاها في عجائبيات السرد اللاتيني من أجل سحر العربية وبهائها، ترجم ما يزيد عن الـ 100 عمل من أدب أميركا اللاتينية والآداب المكتوبة بالإسبانية، رحمه الله وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان».
وكتب الروائي السوداني أمير تاج السر: «وفاة واحد مثل صالح علماني، تعطي إحساساً باليتم المعرفي. رحمه الله».
بينما قال الناقد السعودي عبدالله الغذامي عن صالح علماني: «من أعمق الأسماء العربية في الترجمة ترجم عشرات الأعمال وعاش في ظل المعرفة كما وصف نفسه، لكن ظله ظل المفصل المعرفي بين ثقافة وثقافة وعقل وعقل، وظل وسيطاً للفكر والمعرفة، مات بعيداً عن وطنه الذي اتسع لكل مجاهيل البشر وضاق عن عالم حر متفرد في علمه وهمه.. رحمه الله ورحم ظله».
أما المترجم سامر أبوهواش فكتب: «كان الراحل الكبير صالح علماني فريد عصره في الترجمة، فهو واحد من قلة نادرة تجاوز منجزها نقل الأعمال الأدبية، لتصبح إرثاً إبداعياً في حدّ ذاتها، ولتسهم في تشكيل الذائقة الأدبية والثقافية لجيل بأكمله».
محبة خاصة
لم يكافئه «مأمون» بوزن كتبه المترجمة ذهباً، ولكن منحه القرّاء محبة خاصة، ومكانة سامية ربما لم ينلها مترجم، إذ تسابق عشاق الكلمة على ما نقله إلى العربية، وكان اسمه على غلاف ما ضمانة لعمل رفيع يزكّيه ـــ بغض النظر عن اسم المؤلف الأصلي ـــ أنه من اختيار مترجم أسدى، للمكتبة والثقافة العربية الكثير.. إنه المترجم صالح علماني، بحصاد وافر يتخطى الـ100 كتاب، شرعت نوافذ بالجملة للقرّاء العرب على الأدب اللاتيني، وعرّفتهم برموزه، لاسيما روّاد «الواقعية السحرية» وصانعي عوالم الدهشة هناك في الطرف الآخر من العالم.
بعد النكبة بقليل، رأى صالح عمر علماني النور، فتح عينيه بعد التهجير، في مخيّم بحمص في سورية، وتعلّق الصبي مبكراً بالحكايات وما يقصّه الأب الأمي، وكذلك بالكتب وحروفها النيّرة، ولذا سيغيّر المسار، تحت ضغط ظروف تعيسة (سعيدة)، إذ سافر إلى مدريد عام 1970 لكي يصبح طبيباً، لكن أتت حرب أكتوبر لتنقطع عنه مصروفات الدراسة، فاضطر إلى العمل الشاق وترك الطب، وبدأ في دراسة الأدب الإسباني، وعاد إلى سورية مجازاً فيه.
ثروة
«ثروة» ينبغي الحفاظ عليها، ولابد من رعايتها.. هكذا رأى الراحل محمود درويش، صالح علماني، منذ سنوات بعيدة، بعدما وقع صاحب «مديح الظل العالي» على بعض ترجمات الشاب حينها صالح علماني، لكن يبدو أنه لم يلتفت كثيرون حينها إلى تلك «الثروة»، ورغم ذلك ظل علماني مثابراً على الترجمة، يحفر في الصخر، ويدني ثقافة بعيدة ومنسية إلى الواقع العربي، ليعرف ملايين القرّاء العرب بعوالمها السحرية، وفنونها الأدبية، مترجماً أشعاراً وسيراً ذاتية وروايات وغيرها، لكن أقرب الفنون إلى قلبه كانت بالطبع الروايات والأعمال السردية.
مبكراً.. غيّر صالح علماني، الذي أجبره الدمار الحاصل في سورية على مغادرتها والإقامة في إسبانيا، معادلة المترجم القابع في الظل، ذلك «الخائن» الوسيط المتواري الذي لا يمنحه أصحاب دور النشر اهتماماً، وربما لا يضعون اسمه بالمرة على الكتاب، إذ كان لصالح علماني شأن آخر، فبرز اسمه على الغلاف، ربما سابقاً لاسم المؤلف الأصلي، وكأن دور النشر تسوّق باسم علماني، وليس باسم الكاتب الأصلي، فالمترجم الفلسطيني جعل المترجم المهمش «نجماً» يتمرّد على الكواليس، ويصعد على مسرح الكتاب (أو غلافه).
«نجومية» المكافح
لم تكن «نجومية» صالح علماني مجانية، أو بقليل من الإبداع وكثير من العلاقات العامة، إذ دفع صاحبها كثيراً، وكافح سنوات من أجل القارئ وثقافته، وليس من أجل الشهرة التي حازها، فالرجل يعمل في دأب منذ سبعينات القرن الماضي بحماسة منقطعة النظير، يخصص معظم يومه لمعايشة أولئك الكتاب اللاتينيين، ويجتبي أبهى ما قدموه، لكي يمنح عصارته إلى ثقافته العربية التي يعتزّ بها، وربما تخيّر الإسبانية تحديداً، لما بينها وبين العربية من وشائج وصلات لنحو ثمانية قرون، وآلاف الكلمات الإسبانية التي تعود إلى جذور عربية، كما صرح صالح علماني، الذي قال في مداخلة له بمؤتمر عن الترجمة: «إن مهنة المترجم دائماً في الظل لأنه يقدم شخصاً آخر، والمصادفات وحدها هي التي جعلتني نجماً. وأقبل محبة الناس لكنني أخجل، وأرجو لكل المترجمين حظاً مثل حظي في الشهرة».
ولعل ذلك «الخجل» هو الذي جعل علماني ينأى عن الحوارات والظهور الإعلامي المتكرر، متفرغاً لرسالته التي نذر نفسه لها.
رأى صالح علماني أنه «حين نمارس الترجمة بدفء فني؛ فإننا نثري الثقافة العربية بأشكال وأساليب تعبير جديدة.. ونمنحها مزيداً من المرونة»، معتبراً أن الترجمة مهنة شاقة وممتعة في الآن ذاته، وظاهرة من ظواهر الديمقراطية، لملء فراغات تعانيها كل ثقافة.
نقش صالح علماني، وقلة آخرون، أسماء كتاب بالإسبانية في الذاكرة العربية، عرّف القرّاء بروائع مازالت تتوالى طبعاتها، وصارت بمثابة كلاسيكيات تحتل ركناً خاصاً في المكتبات العربية، ومن أبرزها أعمال للراحلين بابلو نيرودا، ولوركا، وخوزيه ساراماغو، وغابرييل غارسيا ماركيز، وكذلك لماريو فارغاس يوسا وإليزابيل الليندي، وغيرهم كثيرون. لكن أعمالاً بعينها ظلت لها منزلة خاصة لدى المترجم، وربما القرّاء، في مقدمتها «مائة عام من العزلة»، و«الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، و«كل الأسماء» لساراماغو، و«حفلة التيس» ليوسا.
اعتقد كثيرون من القراء أن مترجمهم الأثير صالح علماني سيفاجئهم يوماً ما برواية شخصية له، بعمل يطالعونه هو فيه، لكن يبدو أن تلك المفاجأة لن تأتي، خصوصاً أن علماني أكد غير مرة أنه يكتفي بدور المترجم البارز، وليس بدور الروائي العادي..
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news