بالفيديو.. فيكتورين موران.. ملهمة بشعر أحمر وظلال بالية
في مجتمع يسيطر عليه الرجل في كل مجالاته، وفي القرن التاسع عشر، لم يكن من السهل على شابة من الطبقة الكادحة أن تحقق طموحها كرسامة، كما لم يكن من السهل أيضاً تجاهل أي فرصة سانحة للعيش، فكيف لفتاة جميلة وفقيرة أن تتوقع بأنها ستتحول وفي نظر الجميع، وبسبب لوحة أصبحت من أشهر أعمال الرسام الفرنسي إدوارد مانيه، إلى بائعة هوى ومدمنة للكحول.
المحور الرئيس للعديد من لوحات عصبة من الرسامين الباريسيين المشاهير، وفي أهم لوحات إدوارد مانيه، فتاة بشعر أحمر ناري، كانت بطلة أشهر لوحاته وأكثرها جدلاً، عارية تماماً، وليست كآلهة أسطورية كما كان المعتاد، بل كعشيقة أو محظية، وهذه كانت الصورة التي لم تخرج من إطارها فيكتورين موران، الرسامة الطموحة التي عاشت حياة غامضة وحملت تاريخاً غير حقيقي لأكثر من قرن، إلا أنها استطاعت بالرغم من كل ذلك، أن تعرض لوحاتها في أهم معارض باريس آنذاك «باريس صالون».
العازفة الطفلة
ولدت فيكتورين لويس موران في باريس في 18 من فبراير 1844، لأسرة فقيرة من الحرفيين، حيث كانت والدتها تعمل صانعة للقبعات، بينما عمل والدها في مجال تغيير لون البرونز وتعتيقه، إلا أن الفن كان ملازماً لها منذ سن صغيرة، حيث كانت ماهرة في العزف على الغيتار، والكمان، كما أنها كانت تتمتع بصوت جميل.
الأمر لم يتوقف بالنسبة لموران عند الموسيقى، بل كانت تحمل ميلاً خفياً للرسم أيضاً، الأمر الذي جعلها تعمل عارضة في استوديو توماس كوتور للرسم في عمر السادسة عشرة، كما يعتقد بأنها تعلمت مبادئ الرسم في المشغل الخاص بالنساء في الاستوديو، وقد يكون هو المكان الذي تعرفت فيه الى الرسام الفرنسي إدوارد مانيه.
«القريدسة»
عملت موران لأول مرة لمانيه في عمر الثامنة عشرة، في لوحة «مغنية الشارع»، في الفترة التي كان الشاعر وصديق الرسام تشارلز بودلير يحث فيها أصدقاءه على البحث عن الإلهام في المشاهد اليومية المعاصرة، لالتقاط ما سمّاه «أبطال الحياة اليومية»، وكانت موران الصهباء الضئيلة المتهادية بغيتارها تلك المغنية في المقاهي المحلية، ومعلمة دروس الموسيقى في كلا الآلتين، مطابقة لتلك المواصفات، وتحولت بشكل سريع إلى ملهمة مانيه طوال ستينات القرن التاسع عشر.
تموضعت فيكتورين أيضاً للرسامين من أصدقاء مانيه، مثل الرسام الفرنسي إدغار ديغاس، والفرنسي بوفيس دي شافان، إضافة إلى البلجيكي ألفريد ستيفينز، والذي كانت تربطها به علاقة رومانسية. بجمال وهاج، عرفت فيكتورين أيضاً بهيئتها وحجمها الضئيل، وشعرها الأحمر المضيء، ما جعلها تحمل الاسم المستعار «لا كريفيت» أو حبة القريدس.
غداء على العشب
بالرغم من الجدل الكبير الذي ستسببه لوحات مانيه، إلا أن موران أصرت على المجازفة والجلوس أمامه، خصوصاً عند رؤية العلاقة من زاوية موران، الفتاة الفقيرة ذات الـ18 عاماً، والتي تحمل طموحاً سرياً لتصبح رسامة، ومانيه، الثلاثيني، الثري، والأرستقراطي، والرسام الصاعد، الذي وجد في أفكارها ونقاشاتهما الشيقة الإلهام المثالي. في مجتمع فرنسي محافظ، تحولت فيكتورين موران إلى فتاة سيئة السمعة، بعد أن صدم إدوارد مانيه الباريسيين بعرضه للوحة «غداء على العشب» عام 1863، والتي تفاوتت فيها ردود أفعال المشاهدين بين الضحك، والغضب الشديد، بينما عبر البعض منهم عن هذا الغضب بالتهجم على اللوحة.
بالرغم من أن مانيه صوّر موران عارية في هذه اللوحة، إلا أن الجانب الشهواني فيها مُغيّب تماماً، حيث ينشغل الرجلان المرتديان كامل زينتهما، بالحديث، متجاهلين تماماً الصهباء الجميلة التي خرجت للتو من النهر، والأخرى التي لاتزال تلعب في المياه بفستانها الشفاف، كما لو كان غداء بريئاً على العشب.
«أوليمبيا»
لم يكتفِ مانيه بإثارة المشهد الفني الأوروبي والمجتمع الفرنسي بـ«غداء على العشب» فقط، بل قدم في الفترة ذاتها لوحة أخرى لموران، تستلقي فيها دون غطاء، وهي لوحة «أوليمبيا» التي عرضت العام ذاته، وفي كلا اللوحتين قدم مانيه هذه الجميلة الشابة في صورة محظية، الأمر الذي شوّه تماماً صورة فيكتورين موران، وجعل المجتمع يصفها ببائعة الهوى، سيئة السمعة.
دروس رسم
استمرت موران في العمل مع مانيه كعارضة حتى مطلع سبعينات القرن التاسع عشر، حيث بدأت في تلك الفترة بأخذ دروس خاصة في الرسم، تم على أثرها انفصالهما، حيث كانت هي تميل إلى الأسلوب الأكاديمي الكلاسيكي في الرسم، والذي كان مانيه يعترض عليه.
في عام 1875 بدأت موران أخذ دروس مع رسام «البورتريه» إيتين ليروي، لتعرض في العام الذي يليه أول أعمالها الفنية في «صالون باريس»، وهي الفترة ذاتها التي رفضت لجنة الصالون العريق عرض لوحات لإدوارد مانيه.
لم تتوقف موران عن الرسم، بل زادها قبول أعمالها حماساً، واستمرت في تحقيق طموحاتها وعلقت إحدى لوحاتها في أكاديمية الفن عام 1879، وفي الغرفة ذاتها التي عرضت فيها لوحة لمانيه، كما استمرت في عرض لوحات في معارض عامي 1885 و1904.
مُلهمات
لكل إنجاز حكايته الخاصة، التي تختلف مع اختلاف صاحبه ونظرته إلى ما يحيط به، سواء كان لوحة فنية، أو منحوتة، أو تصميماً هندسياً، أو مجموعة أزياء، أو حدثاً غيّر مجرى التاريخ. ومهما اختلف العمل في تركيبته، والخيوط غير المرئية التي شكَّلته، التي لا تراها سوى عين صاحبه، تبقى الشخصية الملهمة هي المعيار الوحيد الذي لا يتغير، وتبقى تلك العلاقة الغامضة والمثيرة للجدل بها هي الشرارة الحقيقية التي تستفز الابتكار.. فمن هنّ الملهمات في التاريخ؟