عاشت في أسرة صارمة وأعادت أشهر رسامي عصره إلى العطاء
مونيك بورجوا..الممرضة التي ألهمت رائد «المدرسة الوحشية»
لكل إنجاز حكايته الخاصة التي تختلف مع اختلاف صاحبه ونظرته لما يحيط به، سواء كان لوحة فنية، أو منحوتة، أو تصميماً هندسياً، أو مجموعة أزياء، أو حدثاً غيّر مجرى التاريخ، ومهما اختلف العمل في تركيبته والخيوط غير المرئية التي شكَّلته، والتي لا تراها سوى عين صاحبه، تبقى الشخصية الملهمة هي المعيار الوحيد الذي لا يتغير، وتبقى تلك العلاقة الغامضة والمثيرة للجدل بها هي الشرارة الحقيقية التي تستفز الابتكار، فمن هن الملهمات في التاريخ؟
في الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن حياة الرجل قد انتهت، وأن المرض والهرم قد يقتلان أي دافع إبداعي، وجد الرسام الفرنسي الشهير وأحد رواد «المدرسة الوحشية» في الفن هنري ماتيس في ملهمته الممرضة الجميلة والراهبة لاحقاً مونيك بورجوا، جذوة استطاعت أن تشعل بداخله رغبة في العطاء الفني، بعفويتها وشجاعتها، وقدرتها المرحة على تأجيج روح من الغزل البريء.
«ممرضة ليلية شابة وجميلة»، ذلك كان نص الإعلان الذي وضعه ماتيس، خلال فترة نقاهته من العلاج من سرطان الأمعاء، وهو الإعلان الذي طابقت شروطه بورجوا، أو ذلك تحديداً ما رآه فيها، تلك التي لم تر يوماً في مظهرها الخارجي أي جمال يذكر، خصوصاً أنها عاشت في كنف عائلة حرصت على غرس تلك الفكرة في داخلها، حيث قالت ضاحكة في إحدى لقاءاتها لاحقاً، إن عائلتها «لطالما اعتقدت أنها بشعة».
ابنة لجندي فرنسي، ولدت مونيك بورجوا في 21 يناير عام 1921، وترعرعت في أسرة حرصت على التربية الصارمة والحازمة من قبل الوالدين، ولأنها كانت الأخت الكبرى، فكان الأمر أقرب إلى أن تكون القدوة الحسنة لجميع إخوتها، والشخص الذي يجب أن يحرص على أن يكون مثالاً يحتذى به، الأمر الذي عزز من صرامة الوالدين على الفتاة، التي لم تكن لتتجرأ وتقرأ كتاباً دون أخذ إذن والدتها مسبقاً.
إعلان
لم تكن الحياة سهلة بالنسبة لأسرة بورجوا، التي عاشت حياة فقر وضنك بسبب الحروب، حيث توفي والدها متأثراً بجراحه، بينما انتقلت الأسرة في عربات نقل للأمتعة هرباً من الحرب، كما عانت والدة مونيك من المرض أيضاً، لتجد الفتاة ضالتها في دراسة التمريض، ومساعدة أسرتها، وكان التمريض أساس لقاء بورجوا وماتيس الأساسي.
صداقة
تعرفت بورجوا على ماتيس عام 1942، كانت تبلغ من العمر آنذاك 21 عاماً، وكانت لاتزال طالبة تمريض في مدينة نيس الفرنسية، بينما كان ماتيس في الـ72 من عمره، ويتعافى من مرضه، وهي الفترة التي حرصت فيها الشابة على رعايته، وترتيب فراشه ومخدته، وإطعامه، والتجول معه مشياً على الأقدام، فاستطاعت أن تسحره بشخصيتها العفوية والمباشرة وروحها الشقية، وعدم مجاملتها له، وقالت كاتبة قصة حياة ماتيس هيلاري سبيرلنغ، «كرسام، أحب ماتيس تموجات شعرها الكثيف الداكن، وكيف تبرز رقبتها فوق كتفيها كبرج أبيض».
وأضافت سبيرلنغ في كتابها: «تعلمت بورجوا الكثير منه، كما أنه وجدها في الوقت ذاته مستفزة لمشاعره، كما أنها كانت مرحة، ومؤثرة»، كما تطور الأمر إلى المزيد من النقاشات والاهتمام المشترك، عندما اكتشف ماتيس أن ممرضته كانت رسامة مبتدئة هي الأخرى، ما جعله يحرص على توجيهها في ما يخص الرسم المنظوري، والرؤية الفنية للعمل، وفي الوقت ذاته لم تتردد بورجوا في تقديم النقد المباشر لأعمال ماتيس إذا سألها عن رأيها، حيث قالت في إحدى اللقاءات: «لقد كنت أقول له: سيدي، أحببت الألوان كثيراً، ولكن لم ترقني الرسومات تماماً»، الأمر الذي لم يكن يزعج الرسام، بل كان يحرص على إعادة رسم اللوحة أكثر من مرة.
مرض ماتيس وحاجة بورجوا كانت السبب في بدء صداقة طويلة لم تنته بين الشيخ والشابة، بل استمرت حتى بعد انتهاء فترة النقاهة، حيث طلب منها أن تكون عارضة للوحاته، وهو الطلب الذي وافقت عليه بامتعاض وتردد شديدين، سواء بسبب خلفيتها المتشددة، أو بسبب شهرته كرسام لم تفتقر أعماله لرسم لوحات تحتوي على عارضات عاريات.
وقالت بورجوا في لقاء خلال فيلم وثائقي عن علاقتهما للبروفيسورة باربرا فريد عام 2003: «حين كنت طفلة أخبرني والداي بأنني بشعة المظهر»، إلا أن ماتيس، وبحسب سبيرلينغ، كان معجباً بالنساء القويات، كما أنه كان معجباً بـ«قوامها وهيئتها، وتلك القوة الناشئة في داخلها».
في الرداء الرمادي
لم ترفض بورجوا طلب صديقها الرسام، الذي ألبسها رداء مسائياً رمادياً من الشيفون الهفهاف، بفتحة كبيرة تكشف الكثير من منطقة الصدر، الأمر الذي لم يرق للفتاة الريفية المحافظة، إلا أنها وافقت على إكمال الأمر، وبعفويتها وأسلوبها الفج والمباشر، لم ترق لها اللوحة التي حملت عنوان «مونيك في الرداء الرمادي»، وقالت لـفريد في اللقاء «لم تكن تشبهني، ولم أعتقد أن اللوحة كانت جيدة»، كما قالت أيضاً عن اللوحة إنها بالنسبة لها «لم تكن سوى خطوط وبقع من الألوان لا أكثر»، إلا أن الأمر لم يمنعها من أن تتموضع للرسام في ثلاث لوحات أخرى، وهي لوحة «المحبوبة»، و«الفستان الأخضر والبرتقال»، و«تاباك رويال». كما قالت بورجوا أيضاً، إن ماتيس كان دائماً ما يفضل رسمها من دون أكمام، وبذراعين مكشوفتين، كونه كان معجباً بذراعيها اللتين لم تحملا أي بروز في منطقة الكوع.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news