بلال عبدالـله: في فريج المرر عشنا أجمل لحظات العمر

حتى لا ننسى.. هنا الرحلة أكثر من مجرد حنين، يتوق إلى التقليب في صفحات «الزمن الجميل»، بل همزة وصل بين الماضي والحاضر، ومساحة تفتح نوافذها «الإمارات اليوم»، لتمنح قرّاءها فرصة مرافقة مبدعين ومشاهير في كل الميادين، نشأوا بين ربوع إمارات الخير، ومازالوا يعتزون بـ«أول منزل»، ولا ينسون «الحبيب الأول» الذي فتحوا عيونهم عليه، مستعيدين بالكلمة والصوت والصورة، الذكريات المحمّلة بالكثير: الأحبّة والرفاق وأهالي الفريج الطيبين، والتفاصيل الصغيرة عن الأماكن والشوارع والأشجار التي ظللت العمر في البدايات، ومازالت عصية على النسيان، ساكنة في الوجدان.

يأخذ الحديث مع الفنان الإماراتي بلال عبدالله، حول ذكريات البيت الأول والفترات الزمنية المتلاحقة التي عايشها، بُعداً إنسانياً خاصاً يتجاوز سرد الأماكن والشخوص وشريط الأحداث التي مرت في مخيلته خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وصولاً إلى مشارف الألفية الجديدة التي يؤكد أنها امتداد لمحطات الزمن الجميل، الذي مازال يسكنه، بلحظاته الأخاذة ولوحات ذكريات أهله المملوءة بالتفاصيل.

ويرى بلال عبدالله أن تلك الأماكن هي التي أسست بشكل مباشر للنهضة الكبيرة في هذه الفترة، وإن اختلفت - حسب تعبيره - أغلبية العادات القديمة التي افتقد العديد منها، برهافة الفنان الذي يحنّ إلى ذكريات بيوت الفريج التي كانت لا تغلق أبوابها، على حد وصفه.

وفي بداية غوصه في بحر الذكريات عن «أول منزل»، يتوقف النجم الإماراتي عند أبرز سمات مجتمع طفولته الأولى، في السبعينات، إذ عكست تفاصيله وتجارب أهله في تلك الفترة واقعاً يسوده التراحم ومبادئ الأسرة الواحدة، في ظل ندرة وسائل التواصل المتاحة آنذاك، مضيفاً لـ«الإمارات اليوم»، «لم نكن نعتمد كثيراً على الهاتف المنزلي، فهناك اللقاءات والتواصل المباشر، وإن تعذر ذلك نلجأ إلى الرسائل المكتوبة بخط اليد، التي نعبر بين سطورها بما في صدورنا من صدق المشاعر الإنسانية وأنبلها، في الوقت الذي كانت الصور الفوتوغرافية، أجمل رفاق لحظاتنا الجميلة التي تزين منازلنا وبيوتنا وتعمر (ألبوماتنا) الغامرة بالحياة. أما اليوم، فأصبحنا ميالين إلى الهواتف المتحركة لإرسال بريد مودتنا للناس في قوالب مقتضبة ومتماثلة، فيما نتلمس عبر الشاشات الملساء ملامحنا التي باتت افتراضية في هواتفنا وشاشات كمبيوتراتنا».

كنوز

وحول أهم الكنوز النفيسة التي مازال يحتفظ بها، قال بلال عبدالله: «لدي العديد من الذكريات الرائعة كهواتفي المتحركة القديمة وآلة الأكورديون الموسيقية، ومجموعة بديعة من الصور والمقتنيات التي تذكرني بالأماكن الأربعة التي عشت فيها في مرحلة السبعينات، وذلك بعد أن ولدت في فريج المرر بمدينة دبي، وتحديداً في المنطقة التي اعتبرها قاطنوها جديدة، مقارنة بالمنطقة القديمة من الفريج المطلة مباشرة على البحر».

ويتذكر: «تحضرني اليوم صور عتيقة من أيام طفولتي الأولى، استمتعت أثناءها بالمشي طويلاً مع الأقران إلى المدرسة، في الوقت الذي كنت تواقاً باستمرار لأوقات عودتنا للعب على جانب (الحفرة) التي نفذتها إحدى الشركات العالمية لتشييد نفق الشندغة».

الصورة الأصدق

ويواصل الفنان الإماراتي استحضار محطات الماضي الأثيرة في فريج «المرر»، ساحة ذكرياته، ليقوده الحنين لاحقاً إلى بيت طفولته السعيد في المكان: «كان بيتنا عبارة عن عريش، وهو بيت يصنع من جريد النخل المرصوص الذي يثبت بالحبال المصنوعة من سعف النخيل، وذلك، قبل أن يأمر المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، ببناء البيوت على شكلها الحالي. وقتها كنا نقضي في منزلنا نحو ستة أشهر من العام، لنمضي من ثم النصف الثاني الذي كنا نستعد له عبر حفر الآبار وتشييد أماكن الأكل والشرب والصرف الصحي، قرب شاطئ البحر، فيما يبقى بيتنا الأول في عهدة حراس أمناء».

وحول أجمل وأغلى الشواهد التي مازالت محفورة في الذاكرة من بيت الفريج، يستعيد مشهد والدته التي لطالما كانت حريصة على جمع كل أفراد الأسرة تحت شجرة اللوز التي تصدرت قلب البيت: «أفتقد بشدة، هذه الصورة، ويجرفني الشوق إلى بساطة حياتنا وحلاوتها، فيما تبقى صورة تجمعاتنا العائلية الغامرة بالفرح، من أجمل وأصدق لحظات حياتي على الإطلاق».

الباب الصغير

وعلى الرغم من تحوّل المكان، بملامحه وذكريات شخوصه بالنسبة لبلال عبدالله، إلى منطقة تجارية، اندثرت معها أغلبية البيوت القديمة وتفاصيل سكانها من جيل الأصدقاء الذين انطلقوا في تحقيق أحلامهم، إلا أن روح فريج المرر مازالت نابضة بالحياة لدى الفنان، أما بقايا تفاصيلها، فهي موغلة ليس فقط في الجمالية وإنما في الواقعية والتأريخ لبعض المراحل الأهم في تاريخ دبي، إذ يستكمل الفنان «مازالت تحضرني اليوم ذكرى ذلك الباب الصغير الذي كان يزيّن مداخل منازلنا مرحِباً بالأهل والضيوف الجدد، فيما كانت كلمة (هود) و(هوي) لغة التخاطب ومفتاح القلوب والبيوت معاً».

أساطير الكبار

وفي ذكرى بيت العائلة والأهل، ومحطات الطفولة السعيدة في حضن الوالدين، يعدّد بلال عبدالله أساطير كبار الفريج التي تناقلها الآباء والأمهات وكانت تثير خوف الأبناء، قائلاً: «لن أنسى طفولتنا العامرة بالقصص والحكايا، ولا حيل أمي وأبي لتخويفنا ودفعنا نحو عتبات البيت قبل أن يداهمنا الظلام أو للنوم أحياناً، عبر رواية قصص شخصيات أسطورية مفزعة، مثل (البعير بو راسين) و(بابا درياه)، و(أم الدويس)، فيما تحضرني كذلك (حفلة العقاب) التي كان يتولى خالي، رحمه الله، مهمة تنفيذها نيابة عن والدي لردع الطفل المشاغب الذي كان يسكنني، فيما كانت والدتي ذات الشخصية القوية والحكيمة، ملاذي الآمن على الدوام».

في القلب

وحول أبرز ملامح الأماكن التي شكلت ذاكرته، يشير بلال عبدالله، إلى «سوق السمك القديم وسوق الخضار الذي يحاذيه على مقربة من نفق الشندغة، و(منطقة الراس) حالياً، وسلسلة الدكاكين التي كان يزخر بها فريج المرر في تلك الفترة، مثل بقالة محمد فروشة وبقالة مصبح للأعشاب، وساحة اللعب الحر قرب المسجد التي شهدت أهم دوريات كرة قدم الفريج، كنا أطفالاً مشاكسين نشتغل على تنفيذ أفكار (شيطانية) كان أبرزها حفر حفرة بحدود مترين، دعمناها بالأخشاب، لنوسّع فيها فتحة تسمح لنا بالدخول لشرب الماء الذي كنا نخفيه في خندق صغير ليحافظ على انتعاشته».

ويستطرد «فيما تألق حضور (عصابة المشاكسين) آنذاك بمجموعة واسعة من الألعاب الشعبية الأكثر رواجاً، ومنها لعبة الحرب الطاحنة التي جمعتنا، وتجربة معركة الشجرة العظيمة الكائنة بشارع نايف قبالة مسجد الفطيم، التي كان يتسلق أغصانها 10 أطفال، فيما يحاول 10 آخرون منع البقية من التسلق، وسط أجواء استثنائية من المنافسات الحماسية والكر والفر اللذين لا تزول عداءاتهما، إلا بانتهاء اللعبة وقرار العودة إلى الفريج».

هدايا العيد

ولم ينسَ بلال عبدالله لا شريط ذكريات الروائح المنسابة من فتحات النوافذ المشرعة على البحر، ولا أجواء العيد الاستثنائية المتصلة بمناسبات الفريج، لافتاً إلى حرص كبار الفريج آنذاك على زيارة كل بيت وتذوق زاد أهله، فيما لم يخفِ شوقه لأعراس المرر التي وصف طقوسها قائلاً: «عشنا أجواء لا تُنسى مع فرق الشعبية التي كانت تجمع كل أفراد الفريج الآمنين على بيوتهم من السرقات، فيما كان الطعام وافراً والذبائح والهريس تملأ المكان وتوفر الجهد والمال على الجيران من كثرة ما تطرحه من خيارات طعام جاهز للاستهلاك ومتاح في كل وقت».

ويكمل «أمّا ذكريات (ثروات الأعياد) المخصصة للأطفال، فكان لها وقع خاص في قلوبنا، إذ كنا نمشي من خلال نفق المشاة من ديرة إلى جميرا 1 و2 للفوز بعيدية مجزية من التجار وقاطني هذه المناطق، مدفوعين بهذا (الطمع الطفولي) الجميل دوماً، للفوز بـ20 أو 50 درهماً».

• 4 أمكنة رئيسة تنقّل بينها الفنان الإماراتي.

• 19 عاماً قضاها بلال عبدالله في فريج المرر قبل الانتقال لمحطة أخرى.

بلال عبدالله:

• أتذكر سوق السمك القديم وسوق الخضار الذي يحاذيه على مقربة من نفق الشندغة، و(منطقة الراس) حالياً، وسلسلة الدكاكين.

• لم نكن نعتمد كثيراً على الهاتف المنزلي، فهناك اللقاءات والتواصل المباشر، وإن تعذر ذلك نلجأ إلى الرسائل المكتوبة بخط اليد.

• تحضرني ذكرى باب صغير كان يزيّن مداخل منازلنا مرحِباً بالضيوف، وكانت كلمة (هود) و(هوي) مفتاح القلوب والبيوت معاً.

أجمل اللحظات

أماكن عدة، عاش فيها الفنان الإماراتي بلال عبدالله خلال فترة شبابه، بداية من منطقة فريج المرر التي بقي فيها حتى الـ19 من عمره، قبل أن يبيع والده البيت الأول، لينتقلوا إلى منطقة الطوار في دبي. وما بينهما، كانت هناك فترة عامين قضاها مع عائلته في مدينة الدوحة، علاوة على فترة عامين آخرين في منطقة العوير التي عاش خلالها في منزل شقيقته، بحكم قرب مدرسته من مكان إقامتها، لتظل ذكريات منطقة «الراشدية» حيث تعلم حفظ القرآن الكريم على يد سيدة عجوز مع أقرانه، بعض أجمل اللحظات في حياته.

قبل طي الصفحة

قبل طي صفحة الذكريات التي فتحها الفنان بلال عبدالله، ليتحدث فيها عن طموحات وأحلام تلك الفترة الأثيرة من العمر، قال: «رغم أن طموحاتي وأمنياتي في فترة الطفولة والمراهقة، كانت منحصرة في حلم التعليق الرياضي، إلا أنني اتجهت إلى الفن لأخوض فيه أولى تجاربي من بوابة مسرح دبي الشعبي في عام 1988، فيما أتيحت لي في 1996 فرصة المشاركة في مسابقة (ديسكو) التي أحرزت من خلالها المركز الأول إماراتياً ومن ثم عربياً، والتي أهلتني بدورها للمشاركة في مسابقة دولية أقيمت في العاصمة البريطانية لندن، وفزت على إثرها بالمرتبة 16 عالمياً، ثم قرّرت التوقف والتفرغ بشكل كامل للفن».

الأكثر مشاركة