خليفة شاهين: الصورة الصادقــة تتحدّى المؤرخين
يرى السينمائي البحريني خليفة شاهين أن الصورة «أصدق إنباء» من كتب التاريخ . وعندما كان في الثامنة من عمره، ولا ينسى مشهد جده في أثناء مشاهدته فيلماً على شاشة عرض قماشية، عندما أوشك أن يهرب من طائرة على الشاشة، ظناً أنها قادمة نحوه، لكن الرجل الملقب بسينمائي البحرين الأول خليفة شاهين راح بعد ذلك يستسلم لإغواء العدسة التي تمكنت من أن تصبح عالمه الأوسع على مدار 50 عاماً، قادته إلى أن يكون في أحيان كثيرة الشاهد الوحيد على لحظات مفصلية في تاريخ بلده، من خلال وثائقه الفيلمية، متحدياً كتابات المؤرخين بصدقية عدسته، مردداً دائما شعار «الصورة بألف كلمة».
شاهين الذي كرمه مهرجان الخليج السينمائي في دبي في دورته الثانية التي تختتم اليوم، التقته «الإمارات اليوم» في حوار بدأه بالإحالة إلى مشهد أول عمل سينمائي أبصره، حينما كانت المقاعد السينمائية مجرد مجالس حجرية يصطف فوقها المشاهدون، وختمه بالتعبير عن أمله بأن تثمر « كل تلك الجهود المخلصة من أجل ولادة صناعة سينمائية خليجية وعربية قوية في ظهور ما أسماه «عربييود» مقابل «هوليود» و«بوليود»، بهدف «تصحيح الصورة النمطية السلبية التي يروجها أعداء الأمة، وبشكل خاص اليهود الذين يسيطرون بأموالهم على صناعتي السينما والإعلام»، حسب تعبيره .
تحريف مُمنهجوصف السينمائي البحريني الأول المخرج والمصور خليفة شاهين ما يشهده مجال إخراج الأفلام الوثائقية الآن بـ«التحريف الممنهج»، مشيراً إلى « إشكالية كبيرة تتعلق بصدقية أعمال غير محايدة التمويل، تقف وراءها جهات بعينها لا تهدف إلى التوثيق، بقدر ما تهدف إلى تحقيق مكاسب مادية عن طريق ترويج مضلل». ويقول «الكاميرا التوثيقية يجب أن تحتفظ بصدقيتها، حتى في حالة قيامها بأغراض دعائية، وإلا تحول الفيلم الوثائقي إلى فاصل إعلاني يمثل عرضه عبئاً على المشاهد واختلاساً من وقته». ويرى شاهين أن الرهان على ولادة صناعة أفلام سينمائية خليجياً ليس رهاناً خاسراً كما يحلو لبعضهم الترويج، مؤكداً «أن دخول الدول الخليجية قطباً فاعلاً في تلك الصناعة، من شأنه أن يمحو الكثير من معالم الصورة النمطية السلبية للعربي التي رسختها أفلام مشبوهة التمويل نقوم في أحيان كثيرة بدعمها من خلال الإقبال على مشاهدتها في دور العرض السينمائية» . |
وأرجع شاهين الإخفاق السينمائي العربي في مجمله إلى «حقيقة أن كثيرين من أصحاب رؤوس الأموال بعيدون عن الحياة الثقافية والفنية، ويشعرون دائماً بالمزيد من الأمان لأموالهم، حينما يستثمرونها في عقارات أو تجارة الإكسسوارات أو حتى استيراد الأرز، عن المخاطرة بجزء منها في إنتاج فيلم سينمائي يرون سلفاً، أن لا جمهور سيدفع ثمن بطاقات الدخول مقابل أن يشاهده».
ويرى شاهين أن «السوق السينمائية تستوعب لاعبين أساسيين كثيرين في عالمها، وبشكل خاص كل في سياقه الجغرافي، فمع الانفتاح على أعمال الآخرين، ليس هناك مثل الخليجي من هو أقدر على معالجة قضايانا وتجسيد طموحاتنا على الشاشة الكبيرة».
باب سحري
ولم يخف شاهين في تصريحاته انبهاره في طفولته بما رآه على شاشة السينما التي كان يراها باباً سحرياً ينفتح على تفاصيل كثيرة تبدو شديدة التباين، من مشاهد تضجّ بالحياة إلى سواها، ممتلئة بلغات التقتيل والحرب، لثالثة رومانسية حالمة، أكثر من كونها أداة لتمضية الوقت، أو في أحسن الأحوال تروي بالصوت والصورة قصة ما، ليظل الصبي مفتوناً بالشاشة الذهبية التي كانت تأخذ وقتاً كبيراً من تفكيره ووقته.
الهاجس السينمائي هذا جعل شاهين في تلك الفترة يفضل الالتحاق بما كان يطلق عليه حينها «مدرسة الصناعة» في أثناء اشتغاله في شركة «نفط البحرين»، لعله يجد مزيداً من الوقت الذي يسمح له بمشاهدة المزيد من الأفلام، مفضلاً أن يكون طالباً في قسم النجارة الذي يتلاءم مع ميله إلى الاهتمام بالتجسيد الفني.
انقضاء فترة الدراسة والانتداب من الشركة كان يعني رجوع شاهين إلى العمل في قسم الصيانة، لا سيما بعد حصوله على دورات متخصصة، لكنه وجد ضالته في عرض لأحد رؤسائه في أن يعمل مساعداً لـ«خواجة انجليزي»، حسب تعبيره، في قسم الأفلام، وهو موقف يؤرخه شاهين بعام 1959 .
تعرف الشاب البحريني في ذلك الوقت إلى أدوات صناعة السينما لأول مرة، وراح يتحسس الكاميرا عيار 35 ملم التقليدية في مجال التصوير السينمائي، حيث كان «الخواجة» مكلفاً تصوير «شريط أنباء البحرين»، الذي يتناول الأحداث الرسمية التي تقع هناك، ليتم عرض مادته في القناة التلفزيونية الرسمية ودور السينما هناك .
ويضيف«كنت أعد لـ«الخواجة» الشاي، وأقدم له كل ما يحتاجه من خدمات تتعدى وظيفة المساعد، لكنني كنت سعيداً بأنني في كل يوم أتعلم جديداً بشكل عملي في فنون التصوير والإخراج، ما جعل الرجل يرشحني للدراسة الأكاديمية لفنون التصوير في إنجلترا، حيث التحقت بالفعل بجامعة إلينغ للتصوير الفوتوغرافي والسينمائي، حصلت بعدها على تدريب في تلفزيوني «آي تي إم» و«بي بي سي» في مجالي التصوير والإخراج« .
وفي ،1961 عاد شاهين ليعمل مع «الخواجة» في إنجاز شريط أنباء البحرين، قبل أن يقرر الأخير العودة إلى بلاده فاسحاً لشاهين فرصة إعداد «الشريط» بعد عام واحد، ليستمر السينمائي البحريني الأول في إعداده حتى عام 1971 منتجاً 60 شريطاً كاملاً، تضمنت تفاصيل كثيرة موثقة في تاريخ البحرين خصوصا، والمنطقة الخليجية والعربية عموماً.
جنازة ناصرالتقطت عدسة خليفة شاهين لحظات مفصلية كثيرة، ليس في تاريخ البحرين ومنطقة الخليج العربي فحسب، بل في سياق عربي أوسع، امتد ليشمل في إطاره جنازة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ، عبر 60 دقيقة كاملة سجل فيها السينمائي البحريني الأول مشاهد ومراسم ومشاعر كثيرة ما زال يحتفظ بها فيلماً في مكتبته الخاصة . وقد عاد في حواره مع «الإمارات اليوم» إلى شريط ذكريات مساحته الزمنية قدرها خمسون عاماً، وأكد أن التجارب السينمائية الخليجية قادرة على أن تفرز بعد سنوات طويلة صناعة سينمائية، بشرط بدء السعي الرسمي في كل دولة على حدة إلى إطلاق أكاديميات متخصصة تعنى بتدريس الفنون السينمائية، وترفد الساحة في الوقت نفسه بما تحتاجه من تقنيين ماهرين. لافتاً إلى وجوب اهتمام المخرجين الشباب بصناعة أفلام يبحثون فيها عن القبول الجماهيري، وليس مجرد العروض المهرجانية المختلفة. السينمائي البحريني الأول خليفة شاهين صور بعدسته 60 شريطاً في «أنباء البحرين» و20 فيلماً وثائقياً نادرا، وهو يتحدى بمقتنياته المصورة مغالطات تأريخية متعددة . |
البدايات
قبل ذلك بعامين، في عام 1969 وقع حدث سينمائي يحب شاهين دائما أن يوثقه، يقول عنه «علمت أن شركة «والت ديزني» الأميركية بصدد تصوير أفلام عن بعض بلدان المنطقة، فاتصلت بالشخص المسؤول عن المشروع، وأقنعته بإدراج البحرين على قائمة الدول المزمع التصوير فيها، وهو ما احتاج وقتاً طويلاً لإقناعه، ظناً منه بأنه قد لا يجد ما يثيره إخراجياً هنا، قبل أن يدفعه ثراء البحرين، سواء فيما يتعلق بأماكنها الطبيعية المحفزة على اتخاذها مواقع للتصوير، أو الحياة الاجتماعية المتنوعة في أرجائها، إلى إضافة جزء ثان للفيلم الذي اُنجز على مدار18 شهراً كاملا».
ويواصل شاهين «عام 1971 أيضاً كان إيذاناً بمرحلة مختلفة في تاريخ الإنتاج السينمائي البحريني، حيث أسست أول شركة خاصة في هذا المجال، وهي «مؤسسة الصقر» للتصوير وللإنتاج الفني التي أنتج عبرها نحو 20 فيلماً وثائقيا، منها «السعفة السوداء»، «أناس في الأفق»، «صور جزيرة»، «مرح في ربوع لبنان» الذي تم تصويره لوزارة السياحة اللبنانية لأهداف ترويجية. فيما دار فيلم «الحقل المبارك» عن اكتشاف النفط لأول مرة في إمارة الشارقة، وتم إنجازه عام .1974
ومع توالي العقود، لم يتوان شاهين عن رصد الزمان والمكان وتعقبهما بكاميرته السينمائية ورؤيته الإخراجية، في أعمال آخرها وثائقي أيضاً عن «الغوص واللؤلؤ» .
ويعكف الرائد السينمائي البحريني خليفة شاهين حالياً على توثيق المرحلة الأحدث في تاريخ بلده، عبر كامير سينمائية ترصد المنجز الحضاري المعاصر.