فانوس رمضان.. ضوء لم تطفئه العولمة
على الرغم من الانغماس أكثر وأكثر في مظاهر العولمة، يظل فانوس رمضان، القديم منه أو الحديث، ثابتاً يضيء شوارع العالم الإسلامي، وشرفات المنازل، مهنئاً الناس كافة بقدوم شهر رمضان الكريم، حيث بات علامة فارقة على تأكيد رؤية هلال رمضان، حاملاً للنفس أجمل ذكريات الماضي وصفاء الأيام وضحكاتها الطفولية، فأول ظهور لفانوس رمضان كان في صدر الإسلام بهدف الإضاءة ليلاً للذهاب إلى المساجد، وزيارة الأصدقاء والأقارب. وقد عرف المصريون فانوس رمضان فى الخامس من شهر رمضان عام 358 هجرية، اليوم الذي وافق دخول المعز لدين الله الفاطمي القاهرة ليلاً، فاستقبله أهلها بالمشاعل والفوانيس وهتافات الترحيب.
والتطوّرات التي رافقت فانوس رمضان كثيرة، بدءاً من توظيفه، وحكايات نشوئه في سنوات الإسلام الأولى، ومروراً بالتفنن في أشكاله وألوانه وانتقاله من اليدوية إلى الكهربائية، وانتهاء بإدخال الصوت والصورة والأغاني الدينية فيه.
فرح وطفولة
لا شك أن فانوس رمضان بات مدعاة للفرح والتباهي بين الأطفال، فقد تحوّل من وظيفته الأصلية فى الإضاءة ليلاً إلى وظيفة أخرى ترفيهية، حيث راح الأطفال يطوفون الشوارع والأزقة حاملين الفوانيس ويطلقون الأغاني والأناشيد، ومن أشهرها الأغنية المصرية «وحوي يا وحويي».
مريم ناصر (تسع سنوات ـ مصرية) تؤكد أنها تقضي ساعات في السوق لشراء فانوس جميـل تضـيء به غـرفتها ليلة رؤية الهلال. بينما يحتفظ عبدالله قضيماتـي (10 سنوات ـ سوري) بفانوسه الرمضاني وينتظر إعلان الهلال لوضع البطاريات داخله والاستمتاع بالنور، وصوت الأناشيد الدينية المنبعثة منه.
هذا الفرح المرتبط بفانوس رمضان هو فرح موروث عن الآباء والأجداد، وهو ما أكدته أم عمار (فلسطينية)، «على الرغم من أن عادة فانوس رمضان جاءت من مصر، إلا أنها انتشرت في المنطقة العربية بصورة سريعة، لأنها شيء مفرح، يبهج الأطفال ويضفي أجواء ساحرة على طقوس رمضان التي نحرص على أن تكون مميزة»، وتضيف «أنا احتفظ بفانوس رمضان خاص بي، أهرع إليه في كل ليلة من ليالي الشهر الكريم لأعود معه إلى ذكريات الطفولة التي لا يمكن أن تعود بطبيعة الحال إلا من خلال أشياء لها علاقة بالذكرى، وتكون بشكل سري»، موضحة «أعود طفلة صغيرة لم تتجاوز الخمس سنوات وانظر إلى الفانوس واتذكر كل شيء جميل».
تفنن بالشكل
بعد أن باتت عادة الفانوس ظاهرة تعم العالم الإسلامي، أصبح العديد من التجار يبدعون بتقديم الأشكال المختلفة للفوانيس، مدخلين عليها بعض الأدوات والأصوات والألوان لإغراء الأطفال في الإقبال على شرائها مهما كان السعر.
خالد المهنا (سوري) وبائع في محل تجاري قال «قديماً كان الفانوس يعمل على مادة الكيروسين لإشعاله، أما اليوم فباتت فوانيس الأطفال إلكترونية، ويحتوي البعض منها على شرائح تسجل عليها الأناشيد الدينية». وأضاف «على الرغم من سيطرة التلفاز وبرامجه على عقول الأطفال إلا أن كثيراً من العائلات العربية في الإمارات يحرصون على اصطحاب أطفالهم لابتياع الفوانيس قبيل بدء الشهر الفضيل»، مؤكداً أن «الفانوس أثبت أنه ضد التغيرات التي تطرأ على منطقتنا، وضد أي ظاهرة جديدة قد تلغيه يوماً، على الرغم من أن أسعاره غالية مقارنة مع الماضي».
وأيده محمد السيد (مصري)، بائع في محال تجاري قائلاً: «قديماً كانت الأسر تجلس وتصنع فوانيسها يدوياً من الخشب وورق القصدير وتعلقها على أبواب المنازل والشرفات تعبيراً عن قدوم شهر الخير والبركات». وأضاف «الأطفال مازالوا يطوفون المحال للبحث عن الفوانيس الجميلة لإضاءة ليالي رمضان فيها»، وتابع «قديماً كان الأطفال يطوفون بفوانيسهم لطلب الهدايا والحلويات من الناس في الشوارع، أما اليوم فهم يكتفون بالإضاءة والاستمتاع ببهجته».
الطفل محمد الفلاسي (إماراتي) لم يتجاوز عمره الخمس سنوات، حسب والدته، يصر على شراء الفانوس الرمضاني منذ كان عمره سنتين «فهو مولع بتصميمه وشكله وألوانه والأصوات الصادرة منه»، مؤكدة «الغريب أنه لا يأبه بفانوسه إلا في شهر رمضان الفضيل، لذا احرص كل عام وقبيل بدء الشهر بأسبوع على الأقل أن أذهب معه إلى الأسواق لابتياع الفانوس الذي يريده»، مشددة «على وجوب الحفاظ على التراث العربي الذي من شأنه تعزيز الهوية الإسلامية والعربية أمام العالم كله».
تاريخ الفوانيس
يقال إنه في يوم 15 من رمضان سنة 362 هجريّة وصل المُعزّ لدين الله إلى مشارف القاهرة ليتخذها عاصمة لدولته، وخرج سكانها لاستقباله عند صحراء الجيزة ومعهم الفوانيس الملوّنة، حتى وصل إلى قصر الخلافة، ومن يومها صارت الفوانيس من مظاهر الاحتفال برمضان.
وهناك قصة أخرى تقول: في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي كان محرماً على نساء القاهرة الخروج ليلاً، فإذا جاء رمضان سُمِحَ لهن بالخروج، بشرط أن يتقدّم السيدة أو الفتاة صبي صغير يحمل في يده فانوسًا مضاءً، ليعلم المارة في الطرقات أنّ إحدى النساء تَمُر، فيُفسحوا لها الطريق، وبعد ذلك اعتاد الأولاد حمل هذه الفوانيس في رمضان». وقيل: «ظهور فانوس رمضان ارتبط بالمسحراتي، ولم يكن يُوقد في المنازل، بل كان يعلق في منارة الجامع إعلانًا لحلول وقت السحور». ويقول ابن بطوطة في وصف الاحتفال برمضان في الحرم المكي «كانوا يعلقون قِنديلين للسحور، ليراهما مَن لم يسمع الأذان ليتسحرَ».
أما الحكم الشرعي فيها الإباحة، لعدم ورود ما يمنعها، وإذا قصد بها الفرح بقدوم رمضان، أو الإعلام بوقت السحور فقد ترقَى إلى درجة المُستحب، والأعمال بالنيّات