التأمل.. مفتاح لنشاط ذهني
غالباً ما يعتمد كثيرون على تناول القهوة أو المشروبات الغنية بالكافيين، كي تمدهم بدفعة من النشاط الذهني الذي يعين على بدء يوم عملي مفيد ومنتج، إلا أن الأمر لم يعد يقتصر على هذه الطريقة الشهيرة للتنبيه، إذ كشفت دراسة حديثة أن القليل من جلسات التأمل والاسترخاء، يمكن أن تهيّئ الدماغ بالقدر ذاته من النشاط والحدة الذهنية.
وبينت بحوث سابقة باستخدام تكنولوجيا للتخيل العصبي، أن تقنيات التأمل يمكن أن تحفز تغيرات واضحة في مناطق الدماغ المرتبطة بالتركيز، إلا أنه لطالما اعتقد أن التدريب المكثف على التأمل وتقنياته المختلفة يمكن أن يعين المرء على الوصول لهذه الحالة من تطوير مهارات التفكير والفهم، وعلى الرغم من رغبة كثيرين في تحسين ودعم قدراتهم الذهنية، ولكنها كانت دائماً مرتبطة بفكرة توفير الوقت والجهد والمال لتعلم تلك التقنيات التأملية التي تحتاج إلى حزم أشبه بما يوفره رجال الدين البوذيين المسخرين لهذه الحالات الذهنية والنفسية طوال الوقت.
إلا أن الدراسة الجديدة، التي أجريت في جامعة نورث كارولينا في أميركا، تبين أن الفوائد الذهنية التي يمكن أن يوفرها التأمل قد تتحقق دون الالتزام الكامل والمكثف للتدرب على هذه التقنيات.
تهيئة للدماغ ربط الباحث في كلية الطب في جامعة وايك فوريست فاضل زيدان بين التدريب المختصر الذي تلقاه المتطوعون، ونوع من الرياضة الذهنية التي تهيّئ الدماغ للوظائف والمهارات الذهنية، وقال «يعمل التركيز على التنفس في حالة مزاجية من الاسترخاء، بطريقة تعين على تنظيم المشاعر الداخلية والحالة المزاجية من خلال رفع الوعي بالعمليات العقلية التي تحصل في الدماغ، وهو شبيه بتمرين عضلات المعدة أو الساعدين، إلا أن الفرق هو أننا نقوم بتمرين الدماغ»، مشيراً إلى أن تأمل «اكتمال الذهن» يعلم المرء كيفية إبعاد الضغوط والتشويشات الخارجية، سواء كانت أفكار المرء الخاصة به والتي تحصل داخل دماغه، أو كانت ضوضاء خارجية، ما يهيّئ الدماغ للأنشطة التي يواجهها، إلا أن ذلك قد لا يكون مستمراً، فالأمر لا يعني ممارسة التأمل لمدة أربعة أيام والتوقف عن ذلك، فعلى المرء الاستمرار في ممارسة هذه التمارين والعادات التأملية للحفاظ على النشاط الذهني العالي، وفق زيدان. |
تطور ملحوظ
واكتشف خبراء علم نفس درسوا تأثير طريقة تأمل تسمى بـ«اكتمال الذهن»، أن المتطوعين في الدراسة الذين تم تدريبهم على هذه التقنية من التأمل، قد أظهروا تطوراً ملحوظاً في مهاراتهم الذهنية الدقيقة والحساسة، وكانوا قادرين على إتمام اختبارات ذهنية عالية المستوى، مقارنة بمجموعة أخرى لم تمارس التأمل، بعد أربعة أيام فقط من التدرب، ولمدة 20 دقيقة فقط يومياً.
وقال الباحث في كلية الطب في جامعة وايك فوريست، وطالب الدكتوراه السابق في جامعة نورث كارولينا، التي أقيمت فيها الدراسة فاضل زيدان، إن «نتائج الاختبارات السلوكية التي أجريناها، خلال الدراسة، تبدو مقاربة من نتائج دراسة سابقة تم خلالها تدريب المتطوعين على تمرينات تأمل أكثر كثافة»، مبدياً دهشته من النتائج الإيجابية الواضحة في تطور القدرات الذهنية لمدى المجموعة المتطوعة في الاختبار، بعد أربعة أيام فقط من التأمل البسيط، و«ذلك دليل على أن الدماغ هو في الواقع جزء سهل التغيير والترويض وسريع التأثر، خصوصاً عبر التأمل».
وخضع للدراسة 63 طالباً متطوعاً من الجامعة، وأكمل 49 منهم التجربة، وقُسم المتطوعون بشكل عشوائي إلى مجموعتين، خضعت إحداهما للتدريب على التأمل، بينما استمعت المجموعة الثانية على فترات متشابهة إلى كتاب سمعي، يتم تشغيله بصوت مرتفع للجميع، بينما خضعت المجموعتان قبل وخلال جلسات الاستماع والتأمل، لاختبارات سلوكية يتم تقييم الحالة المزاجية فيها، بالإضافة إلى الذاكرة، والانتباه البصري، وكيفية وديناميكية عملية الانتباه، إضافة إلى اليقظة، وعلى الرغم من أن نتائج كلتا المجموعتين كانت متساوية في جميع الاختبارات في بداية الدراسة، بالإضافة إلى تطورهما بعد جلسات التأمل، والاستماع إلى قراءة الكتاب في اختبارات الحالة المزاجية، إلا أن المجموعة التي تلقت التدريب على التأمل هي فقط التي حسنت من نتائج اختباراتها المتعلقة بالنشاط الذهني، إذ سجلت مجموعة التأمل معدلات أعلى من الأخرى بشكل مستمر وملاحظ في جميع الاختبارات الذهنية، وبشكل مضاعف 10 مرات من مجموعة الاستماع في أحد الاختبارات المتعلقة بالمحافظة على التركيز، والمصاحبة للاحتفاظ بمعلومات أخرى في الذهن.
نتائج
وبين زيدان أن مجموعة التأمل «نجحت في تحقيق معدلات عالية في الاختبارات الذهنية التي كانت معتمدة على تحديد الوقت، وعبر مهمات احتاج المتطوعون خلالها التعامل مع المعلومات تحت ضغط الوقت المسبب للتوتر»، موضحاً أن نتائج «مثل تلك التي توصلنا إليها، تقترح أن فوائد التأمل قد لا تحتاج إلى الاستثمار في الوقت، والجهد الصبور لتعلم التقنيات المكثفة للوصول إلى النتائج الذهنية المطلوبة، وأن واحدة من أهم فوائد التأمل، هي تلك المرتبطة بقدرة هذه التقنيات على الحفاظ على رفع قدرة الإنسان على التركيز المستمر».
وشدد زيدان على أهمية القيام بالمزيد من الدراسات، للتمكن من الوصول إلى نتائج وحقائق جديدة حول العلاقة بين قدرات الدماغ وتقنيات التأمل، والدراسات المعتمدة على تصوير الدماغ قد تكون ضرورية لتأكيد قدرة الدماغ على التغير والتقولب بحسب ما أشارت إليه الاختبارات التي تعتبر دليلاً قوياً بأننا قد نكون على قدر كبير من السيطرة والتحكم وإعادة برمجة أدمغتنا لتطوير قدراتنا الذهنية وخصوصاً القدرة على التركيز المستمر واليقظة، في زمن لا يتعدى الأسبوع، حسب زيدان.
وخضعت المجموعة التي اعتمدت على التأمل، لتدريبات تأمل خاصة، سميت بـ«اكتمال الذهن» وهو نظام معدل مقتبس من مهارات «شاماثا» للتأمل والخاصة بعادات التأمل في الديانة البوذية، حيث وجه المتطوعون للاسترخاء، مع إغلاق أعينهم، والتركيز ببساطة على إيقاع تنفسهم بين شهيق وزفير من الأنف، ومع احتمال التفكير بشيء عفوي ما، يطلب من المجموعة تقبلها ومن ثم تركها، من خلال جذب التركيز مرة أخرى على التنفس، ما يعين على تعلم الوعي بالجسم وحالاته، وعلى التركيز.