جداريات فنية وجماليات عمرانية تعود إلى القرن الـ 19

محطات قطارات باريس استراحات ثقافية

محطات القطار لم تعد مراكز مواصلات بقدر ما هي أماكن تختلط فيها الأبعاد التاريخية والثقافية. د.ب.أ

لا يُعد التنقل من قطار إلى آخر أمراً مثيراً وممتعاً، حيث ينزل المسافر من قطار على الرصيف ويسير لبضع دقائق حتى يصل إلى الرصيف الآخر ليصعد إلى قطار ثانٍ ويواصل الرحلة. غير أن الأمر ليس كذلك في باريس؛ إذ لا توجد هنا محطة قطار رئيسة، كما هو الحال في المدن الأوروبية الكبرى الأخرى، وإنما تمر قطارات المسافات الطويلة عبر ست محطات رئيسة كبرى تحيط بقلب المدينة، لذا يتعين على من يرغب في تغيير القطار مطاردته بالمترو أو الترام السريع أو الحافلات أو سيارات الأجرة في وسط المدينة.

ويقول غوستاف مركير، مواطن كثير الترحال: «حينما قام العديد من شركات السكك الحديدية الخاصة في القرن الـ19 بمد قضبانها إلى جميع أنحاء البلد على شكل نجمة انطلاقاً من باريس كمركز لخطوط السكك الحديدية، شيدت كل شركة محطة رئيسة خاصة بها، وعلى الرغم من أن شبكة خطوط السكك الحديدية تقع تحت سيطرة الدولة منذ عهد طويل، غير أن محطات القطار والخطوط القديمة حافظت على وجودها حتى وقتنا الحالي باستثناء القليل منها».

ويهيم هواة السفر بالقطارات من جميع أنحاء العالم عشقاً بمباني محطات القطار الرئيسة في باريس التي تماثل قصور النبلاء في العصر الإقطاعي والتي تحولت إلى استراحات ثقافية. وقد كانت الأبهة التي تنطق بها الطرز المعمارية لهذه المحطات مقصودة؛ حيث كان القطار منذ قرن ونصف القرن يُعد بمثابة وسيلة التنقل للأثرياء والموسرين. وليس أدل على ذلك من أن الركاب آنذاك كانوا ينتظرون في صالونات على أرصفة القطار وكانوا يتناولون الطعام في مطاعم فاخرة. وفي عام 1833 انطلق قطار الشرق السريع «Orient Express» الأسطوري في أولى رحلاته التي تستغرق أياماً عدة من باريس إلى إسطنبول، وحتى الريفييرا الفرنسية «كوت دازور» كانت تسير فنادق فخمة على قضبان. ومع الحرب العالمية الثانية انتهت فترة ازدهار السكك الحديدية في أوروبا، ومع ذلك مازالت بعض المحطات البديعة في باريس، عاصمة أوروبا لخطوط السكك الحديدية فائقة السرعة، تعيد صورة هذا العصر إلى الأذهان حتى وقتنا الحاضر.

«أورساي»

وفي إحدى محطات القطارات القديمة التي تنطق بالفخامة والأبهة يتجول عشاق الفن في المكان الذي كانت قضبان السكك الحديدية ممدودة فيه في ما مضى، ألا وهي محطة «أورساي» الواقعة على الضفة اليسرى لنهر السين والتي تحولت اليوم إلى متحف «أورساي» المتخصص في أعمال رسامي مذهب الانطباعية. وتقول طالبة الفنون، تيريزا روسيل: «لا يمكن تصور أن هذا المبنى الرائع كان سيتم هدمه منذ 40 عاماً». ويشار إلى أن محطة «أورساي» أنشأتها شركة خاصة بمناسبة المعرض العالمي عام 1900 من أجل الربط بين باريس وجنوب غرب فرنسا. وتم استبعاد القاطرات البخارية من المحطة، حيث كان التشغيل يتم بالطاقة الكهربائية، الأمر الذي كان يمثل آنذاك حدثاً فريداً من نوعه ومثيراً للاهتمام. وقد كان ملحقاً بالمحطة فندق فخم.

«سانت لازار»

وسحرت محطة «سانت لازار» في القرن الـ19 الرسام الفرنسي كلود مونيه، رائد المدرسة الانطباعية، وتوضح روسيل مدى إعجابه بهذه المحطة قائلة: «رسمها 12 مرة». وانطلاقاً من محطة القطار هذه يستطيع المسافر حتى يومنا هذا الوصول إلى المنتجعات والموانئ المطلة على «بحر المانش». ومن بين القطارات التي تنطلق من محطة «جار دو نور» إلى أنحاء أوروبا قطار اليوروستار الذي يسير عبر نفق بحر المانش متوجهاً إلى لندن، وقطار «تاليس» السريع الذي يتجه إلى أمستردام وبروكسل وكولونيا، وكذلك قطارات TGV فائقة السرعة المتوجهة إلى الشمال. ويحرص الكثير من السياح على التقاط صور فوتوغرافية لواجهة المحطة البالغ طولها 180 متراً والمُصممة على الطراز الكلاسيكي الحديث والتي يعود تاريخها إلى عام .1864

محطة «ليون»

ومن يصل إلى هنا ويرغب في مواصلة السفر إلى الجنوب يتعين عليه الذهاب إلى محطة «ليون». وهنا يقول آلان الذي يعمل مفتش تذاكر في القطارات: «يجب أن تكون قد احتسبت وقتاً كافياً لتغيير القطارات».

«مونبرناص»

محطة «مونبرناص» هي المحطة الوحيدة التي اضطرت الى التخلي عن ماضيها المعماري. ومن هذه المحطة تنطلق قطارات TGV فائقة السرعة صوب المحيط الأطلنطي. ومنذ 20 عاماً تزدان المحطة بواجهة زجاجية عصرية، ما يثير فزع عشاق محطات القطارات التي يفوح منها عبق الماضي. ومن الصعب تصور أن هذه المحطة شهدت واحدة من أفظع حوادث القطارات المروعة؛ ففي عام 1895 اخترقت قاطرة بخارية واجهة المحطة وسقطت في ساحة تقع بالأسفل بمستوى طابق.

ويحدد آلان المدة اللازمة لذلك قائلاً: «ساعة واحدة تقريباً تكفي». ويُعد ركوب سيارة أجرة أكثر وسائل المواصلات راحة عند تغيير القطارات. فمن يستقل المترو أو الترام السريع، سيتعين عليه قطع مسافات طويلة في شبكة الأنفاق المتشعبة.

ويحرص رجل الأعمال اللندني، سيان بيترس، الذي يتردد كثيراً على مارسيليا، على أن يمنح نفسه مزيداً من الوقت عند تغيير القطارات. ويفسر بيترس سبب ذلك قائلاً: «يوجد في محطة (ليون) أجمل وأفضل مطعم في محطات القطارات في أوروبا». ويحمل هذا المطعم الذي يُعد قبلة للذواقة اسم «Le Train Ble»، وهو الاسم نفسه الذي كان يحمله في ما مضى القطار السريع الفاخر المتجه إلى «كوت دازور». وفي الطابق الأول هنا أجزاء منه تطل على صالة المحطة وما بها من قطارات عصرية تُبقي الزمن الجميل على قيد الحياة.

لوحات جدارية

يتولد الإحساس بأناقة الماضي من خلال العديد من لوحات الجدران والأسقف كبيرة الحجم والثريا والأثاث على الطراز السائد في مطلع القرن الـ،20 وكذلك من خلال الطاولات المغطاة بمفارش بيضاء والندلاء الذين يرتدون ثياباً تقليدية. ويشار إلى أن رئيس الدولة قام بقص شريط افتتاح المطعم في أبريل عام .1901

وينبغي لمرتادي المطعم أن يحجزوا أولاً، حتى في وقت الظهيرة.

ويتوجب على المسافرين إلى مناطق وسط فرنسا وكذلك المسافرين إلى جنوب غرب فرنسا التوجه إلى محطة «أوسترليتز».

يذكر أن هذه المحطة تحمل اسم المكان الذي كان مسرحاً لمعركة القياصرة الثلاثة عام 1805 والتي انتصر فيها نابليون بونابرت على تحالف النمسا وروسيا.

ومن هذه المحطة أيضاً تنطلق القطارات المزودة بعربات نوم والتي تربط بين باريس وكل من مدريد وبرشلونة، وتحط الرحال فيها أيضاً.

تويتر