في القرن الـ 18 قام الإقطاعيون بتهجير المزارعين من بيوتهم لتربية الأغنام
«مرتفعات إسكتلندا».. العزلة تفتح أبوابها
هناك، حيث العزلة تفتح أبوابها، تكمن في الأحراش بلا حراك وتطل بعيونها ذات اللونين الأصفر والأخضر من بين الأوراق من آن لآخر.. إنها القطة البرية الخجولة التي تحب الوحدة والعزلة، والتي تستوطن المرتفعات الاسكتلندية فقط، إذ تنعم فيها بالهدوء إلى حد كبير. ومازالت القطة البرية تتسلل عبر الأحراش في غابات الصنوبر المتشابكة التي تضمها المرتفعات الاسكتلندية بين أركانها، لذا فإن مقابلتها في الطريق البري المفتوح تحتاج إلى قدر كبير من الحظ.
وهنا يقول حارس المحمية الطبيعية دوغلاس ريتشاردسون «احتمالية مقابلة نمور في سيبيريا أكبر، إذ إن عددها أكثر».
ويقع مكان عمل حارس المحمية الطبيعية البالغ من العمر 53 عاماً، في منطقة «كايرنغورم ماونتينز» جنوبي المرتفعات الاسكتلندية، التي تمتاز بطبيعتها الزاخرة بالوديان المكسوة باللون الأخضر الداكن أمام بانوراما جبلية قاسية. وتعتبر هذه المحمية الطبيعية أكبر متنزه وطني في بريطانيا، إذ تبلغ مساحتها 4528 كيلومتراً مربعاً. وتضم هذه المحمية بين جنباتها عدداً من أكثر الجبال ارتفاعاً في الجزيرة البريطانية.
وتقع قرية كينكريغ الصغيرة التي يقطنها 500 نسمة على أطراف السلسلة الجبلية الحمراء «كايرنغورم ماونتينز». ومن إدنبرة إلى كينكريغ أتستغرق الرحلة بالحافلة أقل من أربع ساعات. وكلما اقتربت الحافلة من كينكريغ، قل عدد الركاب. ويمزح سائق الحافلة مع أحد السياح أثناء نزوله من الحافلة ويسأله: «لماذا كينكريغ؟ ماذا تريد أن ترى هنا؟».
وخلف القرية تقع غابات تكتسي باللون الأخضر الداكن وتضم بين أركانها أشجار البتولا ذات التقليمات البيضاء والسوداء وأشجار الصنوبر المتشابكة. وفي هذه الغابات تعيش الديوك الوحشية والسناجب والآيائل الحمر. كما يستوطن طائر أبوالمنقار المتصالب الاسكتلندي هذه الغابات، وهو عبارة نوع من أنواع العصافير ذو لون أحمر قرميدي. وفي المستنقعات يُسمع صوت صيحات طائر قنبرة الثلوج، وفي الأنهار والبحيرات العديدة التي تسمى Lochs تُرى القنادس والنسور وهي تصطاد الأسماك.
وعلى الرغم من كل مظاهر الطبيعة هذه لا يشعر السائح بأنه في براري، ويرجع ذلك إلى أن هذه المنطقة لا تخلو من البشر، إذ يتوافد إلى هنا المرتادون التقليديون لمناطق الاستجمام القريبة، فها هم أشخاص يجرون على دروب الغابات، وها هي أُسر تتجول من مكان انتظار السيارات إلى أقرب مكان للتنزه، وها هم رجال يصطحبون كلابهم في جولات تنزه. وتبدو منطقة كايرنغورم كأنشودة رعوية. أما البراري فمن المؤكد أنها تقع بعيداً عن حزام قرى الضواحي، مثل كينكريغ، وبعيداً عن اللافتات الإرشادية وطرق التجول وأماكن انتظار السيارات.
ويمر الطريق المؤدي إلى البراري عبر عدد لا حصر له من مروج الأغنام التي ترعى فيها آلاف الأغنام أمام الجبال. وفي الخلف يتبدى منحدر جبلي تغطيه كتل صخرية ضخمة. وكلما اتجهنا إلى أعلى ندرت الخضرة. وأثناء الصعود لا يتنامى إلى السمع سوى صوت النفس وصوت اصطدام أغصان أشجار الصنوبر المتشابكة مع بعضها بعضاً. ورويداً رويداً تتحول الطبيعة إلى نوع من أنواع براري القطب الشمالي.
وتبدو الجبال الجرداء كأنها تتسابق إلى الأفق في مشهد أشبه بأمواج البحر المتراكبة فوق بعضها بعضاً. ولا تنمو هنا سوى عشبة الخلنج التي تجعل المنحدرات الجبلية تتلألأ باللون البنفسجي. وتحلق النسور وغيرها من الطيور الجارحة فوق القمم الجبلية. ووصفت الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف طبيعة هذه المنطقة أثناء زيارتها لها عام 1938 قائلة: «عزلة تمتد لأميال، وأميال تكتسي باللون البنفسجي».
وفي المناطق العالية بالمرتفعات الاسكتلندية يسود صيف قصير وبارد وشتاء طويل يكثر فيه الجليد، وهذا المناخ حول المنطقة إلى توندرا (سهل أجرد) واسع مغطى بالمستنقعات والأشنيات.
ويصف مايك ويلدينغ، مالك أحد الفنادق، الطقس هنا وهو يهز رأسه بقوله «الطقس هنا غير مأمون العواقب، ففي لحظة تشرق الشمس، وفي أخرى ينهمر المطر». لكن سحر هذه الطبيعة يتبدى جلياً، حينما يشق الضوء طريقه بين السحاب فجأة بعد هطول المطر، إنها طبيعة ذات جمال خشن، وبراري مثيرة للشجن.
ويصف الأديب الألماني الشهير تيودور فونتانه رحلته من بيرث إلى إنفرنس عام ،1858 قائلا «لم تطأ قدماي مكاناً منعزلاً أكثر من هذا». وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك مكان في بريطانيا ظل مجهولاً وتعذر بلوغه لفترة زمنية طويلة مثل المرتفعات الاسكتلندية. وفي دليله السياحي الشهير «اسكتلندا» كتب الرحالة الألماني بيتر زاغر «في عام 1700 لم يكن هناك أحد في لندن يعرف عن المرتفعات الاسكتلندية أكثر من إثيوبيا أو اليابان».أأ وعلى الرغم من ندرة الكثافة السكانية بالمرتفعات الاسكتلندية منذ القدم، إلا أنها لم تكن خالية من البشر دائما مثل اليوم. وتعد الأطلال الحجرية للمنازل المتهدمة بفعل عوامل التعرية الجوية شاهداً على فصل مظلم في تاريخ اسكتلندا، فبدءاً من منتصف القرن 18 قام أصحاب الإقطاعيات الكبيرة بتهجير المستأجرين وصغار المزارعين من المرتفعات الاسكتلندية، كي يستغلوا هذه المساحات في تربية الأغنام، وبذلك تم تفكيك قرى كاملة، واضُطر سكان هذه القرى إلى الهجرة إلى أميركا الشمالية أو استراليا. واليوم يعيش نحو 80٪ من السكان في المدن الواقعة بالأراضي المنخفضة جنوبي اسكتلندا. أما المرتفعات فظلت أراضٍ مقفرة غير مستغلة وغير مأهولة، ومن ثم احتفظت بجمالها البري الساحر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news