«براري سيفينيس».. أرض الحرير والكستناء

منازل مكسوة بحجر اردوازي مصقول بشكل مستدير تتلألأ كالعملات المعدنية تحت أشعة الشمس، نهر جاردون الذي يمتاز بمياهه الباردة، صخور غرانيتية ملساء تحتوي على تجاويف تبدو كما لو كانت مقاعد مريحة ذات تصميم عصري، وعلى مدّ البصر تتبدى فتاة تلهو مع كلبها في الماء، وزوجان يستلقيان على مناشف مفرودة على بقعة من رمال الشاطئ،وبالنظر إلى أعلى تقع العين على جسر شاهق يزدان بأقواس أنيقة.

لقد سرنا فوق هذا الجسر منذ وقت قصير، وتوقفنا من تلقاء أنفسنا، حينما اكتشفنا المصطافين وهم يسبحون في النهر أسفلنا، هذا هو أجمل ما في منطقة «سيفينيس» الجبلية الواقعة في جنوب فرنسا، التي تعد بمثابة آخر المناطق البرية في أوروبا.

وتمتاز هذه المنطقة بطبيعة خلابة يغلفها الهدوء، إذ إنها غير مكتظة بالسياح. وتتألف صورة أهذه المنطقة الواقعة خلف مدينة مونبيلييه من تلال تكسوها الغابات، وهضبة شاهقة كثيرة الرياح، ووديان عميقة تجري عبرها الأنهار.

وتضم المنطقة بين جنباتها متنزهاً وطنياً يهدف إلى حماية الطبيعة.

وفي فلوراك، التي تعد الموقع الرئيس في المتنزه، تسير الحياة على مهل. وتشكل أشجار الدلب سقفاً ظليلاً أخضر اللون فوق المقاهي. وفي أحد المحال الصغيرة يمكن شراء عسل الكستناء الذي تشتهر به هذه المنطقة، وعلى ضفاف نهر «تارن» تقع معسكرات تخييم، وخلف فلوراك يقع الجدار الصخري الهائل للهضبة المستوية «كوس ميغا»، التي أدرجتها «اليونسكو» أخيراً على قائمة مواقع التراث العالمي.أ

وعن طبيعة هذه الهضبة تقول موظفة شابة في مبنى المتنزه الوطني: «هنا تتعانق ثلاثة أشكال مختلفة تماماً من الطبيعة»، فالهضبة تتكون من الحجر الجيري، في حين تزخر المنطقة الواقعة شرقي فلوراك بالغرانيت، أما طبيعة الهضبة باتجاه الجنوب فيطغى عليها الحجر الاردوازي.

وتنصح الموظفة السياح الراغبين في الصعود إلى الهضبة بأن يسلكوا أحد الدروب العديدة المحددة الموجودة بالمتنزه.

انطلقنا في رحلتنا صوب الهضبة مصطحبين معنا في حقائبنا خبز الباجت الطازج وجبن بيلاردون، وهو عبارة عن جبن ماعز مستدير الشكل. وسرعان ما تركنا المنازل المكسوة بالحجر الاردوازي وراء ظهورنا، ومررنا عبر أيكة من الكستناء، ورأينا السحالي وهي تمرق عبر أوراق الشجر الجافة مُحدثة صوت خشخشة.

وسرعان ما تلوى طريقنا عبر الغابة باتجاه صعودنا للمنحدر، وفي تلك الأثناء كانت رائحة لحاء أشجار الصنوبر الذكية تملأ المكان، وبمجرد الوصول إلى أعلى، ارتمينا في أحضان العشب لنستمتع بالمنظر البديع على وقع أصوات صراصير الليل، وأسفلنا يقع وادي نهر «تارن»، وخلفنا الطبيعة العشبية للهضبة، ومع هبوب الرياح يتمايل «شعر الملاك» ذو اللون اللؤلؤي، وهو عبارة عن نوع من العشب ذي شعيرات مستديرة ناعمة وزغبية.

وفي الطريق الهابط المنحدر الذي يؤدي إلى فلوراك مجدداً انحلت صخور أشبه بالرواسب الكلسية عن الجدار الصخري.

وفي«سان جان دو غارد» عرفنا سبب كثرة أشجار الكستناء، حيث شكل الكستناء القابل للأكل أهم مادة غذائية في منطقة سيفينيس الصخرية لفترات طويلة، فزراعة الحبوب هنا تكاد تكون مستحيلة. ويتناول سكان هذه المنطقة نبات الكستناء طازجاً أو مطهواً أو مشوياً أو مجففاً، أو يحولونه إلى دقيق، لذا فلا عجب أن يطلق على شجرة الكستناء اسم «شجرة الخبز».

وتسبب شتاء قارس للغاية في مستهل القرن الـ18 في تدمير جزء كبير من أشجار الكستناء، ما دفع سكان سيفينيس إلى زراعة أشجار التوت بدلاً عنها، وذلك بهدف الدخول على نطاق واسع في مجال تربية ديدان القز.

وفي منتصف القرن الـ18 كان هناك نحو 400 ألف شجرة توت في المنطقة، ولكي تنمو ديدان القز من أربع سنتيمترات إلى ثمانية سنتيمترات، فإنها تلتهم أكثر من 700 كيلوغرام من أوراق التوت في غضون أسبوع، ولهذا الغرض تم إنشاء مزارع لتربية دودة القز داخل منازل حجرية بدائية، وبعضها مازال موجوداً حتى يومنا هذا. وكانت ديدان القز لا تعيش مرحلة التحول إلى فراشات، فلم تكن تكاد تدخل في شرنقتها التي يبلغ سُمكها سُمك الإصبع، حتى كان يُلقى بها في ماء ساخن.

وكانت النساء الشابات يجدلن الخيوط التي يبلغ طولها نحو كيلومتر ونصف الكيلومتر، على هيئة ضفائر، والتي كانت مخصصة لصناعة الحرير في ليون ونيم.

وفي ضوء المساء الدافئ يمكن الخروج في جولات تنزه هادئة عبر أزقة «سان جان دو غارد».

ويتقابل سكان المنطقة في المقاهي لاحتساء مشروب كحولي يفتح الشهية، أو يتقابلون في الهواء الطلق لتناول العشاء. وينتمي مطبخ هذه المنطقة إلى مطبخ البحر المتوسط، إذ إن البحر المتوسط يقع على بُعد أقل من 100 كيلومتر. وكمثال على هذا المطبخ يتم تقديم شرائح الباذنجان المشوية وبوريه الثوم غير الحريف مع فيليه اللحم البقري، وفي الوقت الحاضر مازالت قائمة الطعام في «سيفينيس» تتضمن الكستناء القابل للأكل، لكن في صورة موس الكستناء الفاخر غالباً. وأثناء الرحلة عبر «سيفينيس» لا تقطع السيارة الطريق بسرعة كبيرة، ولا يرجع هذا إلى الطرق الزاخرة بالمنحنيات فحسب، بل إلى القرى الصغيرة البديعة أيضاً التي يود السائح لو أن يتفقدها كلها. وغالباً ما تتكون هذه القرى من بضعة منازل حجرية بدائية مكسوة بالحجر الاردوازي. وتملأ رائحة اللافندر رائحة المكان، وتحوم الفراشات ذات اللون الليموني حول زهور اللافندر البنفسجية في مشهد يبعث على البهجة.

الأكثر مشاركة