بحيرة ناصر.. حداثة على درب التاريخ
يخيم الهدوء والروية على الرحلة التي تقصد بحيرة ناصر الاصطناعية الواقعة جنوب مصر، لزيارة الآثار الفرعونية وكذلك أعظم المشروعات الهندسية في القرن الـ20 في الصحراء النوبية مترامية الأطراف، حيث تطلب إنشاء بحيرة ناصر في الستينات من القرن الماضي نقل الكثير من المعابد لإنقاذها من الفيضانات. واليوم يأسر منظر تماثيل رمسيس التي تم نقلها إلى مكان مرتفع في أبوسمبل، قلوب السياح.
ترتطم الأمواج بالجدار الجانبي للباخرة وبرصيف الميناء، فتتمايل معها السفينة ذهاباً وإياباً، ومازال الركاب في جولة برية في أسوان قبل أن تقلع سفينتهم باتجاه الجنوب. وخلال جولتهم في البازارات يغوص السياح في أعماق الشرق بسحره الأخاذ، وتعبئ روائح النعناع والقرفة والكاري المكان، والتي يفوح منها عبق الشرق. وبخلاف البازارات تنتشر محال الهدايا التذكارية التي تعج بالتماثيل اليدوية المصنوعة من الألباستر وحقائب اليد، وحقائب السفر إلى جانب السجاد والمفارش الملونة.
تهجير
يشرح (محمد)، المرشد السياحي المرافق للسياح، قائلاً: «امتدت مملكة النوبة قديماً من أسوان شمالاً بمحاذاة النيل إلى الخرطوم جنوباً». ويحكي (محمد) للسياح بكل فخر وزهو أن الدم الذي يجري في عروقه نصفه على الأقل دم نوبي. ولبناء السد العالي تم تهجير كثير من النوبيين واستقر بهم الحال إما في أسوان أو كوم أمبو. وحوّل السد العالي النيل جنوب مصر إلى بحيرة ناصر الصناعية التي تمتد بطول 500 كيلومتر تقريباً، ويصل اتساع البحيرة في أكثر الأماكن عرضاً إلى ما يزيد على 35 كيلومتراً.
وفي جزيرة النباتات بأسوان يأخذ السياح قسطاً من الراحة تحت الأشجار العتيقة وارفة الظلال، ويغطي السجاد اليدوي المقاعد البلاستيكية في قاعة الشاي، ويقوم رجل ودود ذو شارب بتقديم الشاي الذي تفوح منه رائحة النعناع في أكواب ذات حواف مذهبة. وعبر خضرة الأشجار يقع نظر السياح على فندق «Old Cataract Hoteٌ» الذي كتبت فيه أجاثا كريستي كاتبة الروايات البوليسية الشهيرة جزءاً من روايتها «الموت على ضفاف النيل». وبعد ذلك تقع أعينهم على المراكب الشراعية التي تخترق مياه النيل. وعند الغروب يخيم ضوء أحمر مائل إلى ذهبي على سماء جزيرة فيلة، لذا فلا عجب أن ترسل أعظم مؤلفة روايات بوليسية في التاريخ التحري «هرقل بوارو»، الشخصية الرئيسة في رواياتها، إلى هذا المكان المفعم بالإثارة والتشويق.
تطقطق محركات الباخرة بصوت منخفض وتتسبب في اهتزاز السفينة عند إقلاعها فجراً من ميناء أسوان. ويُعد الإقلاع المبكر سمة مميزة لكل يوم من أيام الرحلة التالية. ويبدأ البرنامج اليومي بزيارة الآثار الخالدة مثل معابد كلابشة، وبعد الظهيرة يستجم السياح على حمام السباحة على متن الباخرة، وفي المساء يختتم السياح برنامجهم بتأمل النجوم المتلألئة في السماء.
سفن
لا يمكن الوصول إلى بعض الآثار الفرعونية في هذه المنطقة مثل «معبد أمادا» و«وادي سبوا» و«قصر إبريم» إلا بواسطة السفينة. وبخلاف ميناء أسوان تجد كل سفينة تقريباً مرسى لها في بحيرة ناصر، غير أنه في ذروة الموسم السياحي يصطف ما يصل إلى 10 سفن بجوار بعضها بعضاً، وهو ما يحتاج إلى قدرة على التنظيم ومهارة فائقة من القبطان عند الإقلاع والرسو.
وتختلف الرحلة في مياه بحيرة ناصر عن الرحلات النيلية في أن السياح يشاهدون في الرحلات النيلية الفلاحين وهم يزرعون الحقول على ضفاف النيل بالفؤوس كما كان الحال منذ أجيال عدة، في حين لا يرى السياح على ضفاف بحيرة ناصر سوى الصحراء، فليست هناك أية كتل بشرية. وينصح بعدم النزول إلى المياه للاستجمام، إذ تشكل مياه الفيضان بيئة جيدة لانتشار تماسيح النيل.
ويعتبر معبد أبوسمبل هو غاية كل من على متن الباخرة، ويقع المعبد اليوم بارتفاع 60 متراً تقريباً عن موقع البناء قبل أكثر من 3000 سنة. وعلى بعد كيلومترات قليلة من الحدود السودانية عمل العلماء والمهندسون في الستينات من القرن الماضي أربع سنوات لإنقاذ معبد رمسيس الثاني فرعون مصر ومعبد حتحور الصغير المخصص لزوجته نفرتاري من مياه الفيضان.
ويقوم القبطان حسين بإيقاف الباخرة معلناً الوصول إلى وجهة الرحلة. وياله من إحساس أن ترسو بالقرب من معبد أبوسمبل! ويسير السياح على طريق منحدر يمتلئ بالحصى والحجارة بطول أقل من 200 متر، وبعد ذلك ساحة المعبد. ومع شروق الشمس تنقشع الغمامة التي تغطي تمثال رمسيس الثاني المصنوع من الحجر الرملي في الفجر شيئاً فشيئاً، ومع سطوع الشمس يغلفه ضوء برتقالي، وبعد ذلك يخفت وهجه ليتحول إلى اللون الأصفر المائل إلى البيج في وسط النهار.
أبدية
بنى رمسيس الثاني هذا المعبد الذي يندرج اليوم ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي ليحيا فيه حياة أبدية كالآلهة. وتحمل الأعمدة التماثيل الأربعة في واجهة المعبد وجه رمسيس الثاني. وتبدو الرسومات على الجدران الداخلية كما لو كانت حديثة، وهي توضح كيف كان رمسيس الثاني يشد القوس أو كيف كان يقتل العدو. وتصبح الأسقف أكثر انخفاضاً كما تصبح القاعات أصغر مساحة وصولاً إلى قاعة المراكب المقدسة الخاصة بالحياة الأبدية والتي يوجد بها أيضاً تمثال لرمسيس الثاني، ولكن هذه المرة كإله. وبين المياه والصحراء والسماء يبدو العصر الفرعوني قد بُعث فجأة من جديد. وفي الوقت نفسه يتوجه الصيادون في الخارج إلى البحيرة ليحاولوا صيد بعض الأسماك قبل أن تلتهمها التماسيح المفترسة.