«تشرشل» مدينة الدببة.. سياحة تحبس الأنفاس

تروج مدينة تشرشل الكندية نفسها على خريطة السياحة العالمية بأنها معقل الدببة القطبية في العالم؛ حيث يتمكن السائح خلال جولته بمنطقة التندرا من الاقتراب من هذه الحيوانات الضخمة ذات الفرو الأبيض بشكل لا مثيل له، ولا يخرج السياح في هذه المغامرة التي تحبس لها الأنفاس إلا برفقة حراس مسلحين لحمايتهم من الأخطار التي ربما تحدق بهم عند مواجهة وحوش الجليد وجهاً لوجه.

وأثناء الانطلاق في هذه المغامرة، قال المرشد السياحي إليوت بصوت خفيض «هذه هي الدبة الأم، يكفي الاقتراب منها بهذا القدر». وفي تلك اللحظات كانت هذه الحيوانات المفترسة ذات المخالب السميكة تقف في مواجهة بعضها بعضاً، وظلت على هذه الحالة فترة طويلة.

ولم تمثل المسافة الفاصلة بين الدببة القطبية والسياح، التي كانت تبلغ نحو 30 متراً أي مشكلة على الإطلاق، لكن المشكلة ظهرت عندما اقترب دب صغير من السياح. فبدأت الدبة الأم في التثاؤب، وهنا همس إليوت قائلا «التثاؤب يعبر عن قلق وتوتر الدبة الأم، وحرصها على سلامة صغيرها».

وقد نصح المرشد السياح من قبل بضرورة الوجود في مجموعات، حتى يكونوا بمأمن من هجمات الحيوانات القطبية المفترسة، ويؤكد أن الفرار من أمام الدببة القطبية لا يمثل وسيلة للنجاة منها؛ لأنها تجري على الجليد أسرع من الخيول.

وفتش المرشد السياحي في جيب سترته عن بعض الأحجار الصغيرة، التي يرميها من وقت إلى آخر في وجه الدببة، لإبعادها عن مناطق وجود السياح، هنا انطلق الدب الصغير مسرعاً صوب الدبة الأم مرة أخرى، وهدأت حدة الموقف وزال الخطر.

وتمثل الإقامة في الأكواخ الخشبية، وسط منطقة تندرا بمقاطعة مانيتوبا الكندية، تجربة فريدة من نوعها بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، على الرغم من بساطة تجهيزات الإقامة.

وضع متناقض

لكن من الأمور المثيرة في هذه الرحلة السياحية وجود حراس مدججين بأسلحة الصيد، كذلك ظهور صغار الدببة القطبية، التي لم يتجاوز عمرها العامين، أمام الأكواخ الخشبية التي يقيم بها السياح.

ويوضح هذا الموقف مدى التناقض في هذه الرحلة، التي تُمثل وضعاً معكوساً لحديقة الحيوان، حيث تتجول الحيوانات في الخارج بحرية كاملة، بينما يظل السياح محتجزين داخل الأكواخ.

وتتيح المنطقة المحيطة بمدينة تشرشل، بمقاطعة مانيتوبا الكندية، للسياح فرصة مشاهدة الدببة القطبية عن كثب، بشكل يندر وجوده في أي مكان آخر في العالم. ويتدفق في هذه المنطقة نهران يصبان في البحر الواقع على حافة خليج هدسون، لكنهما يتجمدان مبكراً بسبب المياه العذبة، لذلك فإن العديد من الدببة القطبية تنطلق خلال فصل الشتاء لصيد حيوان الفقمة في هذا الخليج المتجمد.

وأضاف المرشد السياحي «تركيز وانتشار الدببة القطبية في هذه المنطقة يعدان من أعلى المعدلات عالمياً»، ولا يمكن مقارنتها إلا مع منطقة الملك كارل النرويجية بالقرب من أرخبيل سبيتسبيرغين وجزيرة وانغيل الروسية التي تقع شمال سيبيريا، لكن لا يتمكن السياح من الوصول إلى الدببة القطبية في هذه المناطق إلا بصعوبة بالغة ويصل عدد الدببة في خليج هدسون الغربي بين 900 و950 حيوانا، في حين أن عددها كان 1200 حيوان قبل 10 سنوات.

وأوضح إليوت أن عملية تغيير المناخ أثرت أيضاً في حياة الدببة القطبية، حيث أصبح الخليج يخلو من الجليد لفترة أطول، وبالتالي فإن موسم الصيد يستمر فترة أقصر. وأضاف المرشد السياحي «في أحد أيام الصيف بلغت درجة الحرارة في هذه المنطقة 37 مئوية، لتصبح أكثر المناطق سخونة في كندا».

مدينة أشباح

تشتهر مدينة تشرشل، التي يوجد بها 900 نسمة، بأنها المعقل العالمي للدببة القطبية، ويُعد هذا الاسم تكريماً لهذه الحيوانات التي من دونها ستتحول مدينة تشرشل إلى مدينة أشباح، وقد شهدت حقبة الثمانينات من القرن الماضي إغلاق القاعدة العسكرية بهذه المنطقة، والتي تم إنشاؤها خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي دفع كثيراً من السكان إلى ترك مدينة تشرشل؛ لأن تجارة الفراء لم تعد تجني كثيراً من الأموال، وبالتالي حدث تدهور اقتصادي.

ويتعامل المرشد السياحي إليوت مع الدببة القطبية باعتبارها وسيلة من عوامل الجذب السياحي، في حين يضطر الحارس بمدينة تشرشل إلى التعامل مع الدببة المشاكسة. ويحكي بوب وندسور، أحد الحراس الستة للموارد الطبيعية بمدينة تشرشل، قـائلا «اضطررنا، أخيراً، إلى إطلاق النار على دب يبلغ وزنه 270 كيلوغراما، ويضيف هذا الحارس الذي يحمل مسدس 9 مللم «لقد حاولنا إبعاد هذا الدب عن المدينة بواسطة سيارة بيك آب، لكنه ركض باتجاه السيارة وخشيت أن يصل هذا الحيوان المفترس إلينا من النوافذ الجانبية».

ويؤكد الحارس، الذي يبلغ من العمر 49 عاماً، أن إطلاق النار على الدب يعتبر هو الحل الوحيد في مثل هذه المواقف الخطرة، وعادة ما يتم تخدير الدببة القطبية، التي تفضل التجول في الشوارع ليلاً، ثم يتم نقلها بعد ذلك إلى مكان احتجاز الدببة القطبية، وفي هذا المبني الفريد من نوعه في العالم، الذي يقع على أطراف المدينة، تم احتجاز 10 دببة، وفي مرة أخرى بلغ عددها 30 دباً.

الردع بالتجويع

تظل الدببة القطبية في مكان الاحتجاز نحو 30 يوماً، ولا يتم تقديم أي طعام لها خلال هذه الفترة سوى الماء، ثم يتم نقلها جواً بعد ذلك. ويقوم الحراس باحتجاز الحيوانات والامتناع عن تقديم الطعام لها، ليتم ردعها ولكي تبقى بعيداً على المدينة، لكن ويندسور يشكك في فاعلية هذه الطريقة، ويؤكد أنها تنجح بشكل جزئي فقط.

وكان لانتشار الدببة القطبية في المنطقة المحيطة بمدينة تشرشل تأثير إيجابي في الحياة الاجتماعية للسكان؛ لأن الدببة القطبية تجبر السكان على الانتباه والحذر إلى أقصى درجة ممكنة، وهو ما يستدعي وجوب التواصل بين الأشخاص بعضهم بعضاً.

وأوضح إليوت «نحن نثق ببعضنا بعضاً، لذلك فإننا لا نغلق أبواب بيوتنا أو سياراتنا، حتى يجد المرء مأوى بسرعة، إذا شعر بالخطر عند مقابلة الدب القطبي في الطريق».

ولكن التعايش بين الدببة القطبية والإنسان من المتوقع ألا يستمر لفترة غير محددة؛ حيث تشير تقديرات المنظمة الدولية لحماية الدببة القطبية إلى أن هذه الحيوانات المفترسة ستختفي من شواطئ خليج هدسون مع حلول منتصف القرن الحالي.

وقد لاحظ المرشد السياحي إليوت بعض السلوكيات الغريبة على الدببة القطبية، ويقول «تظهر الآن بعض التصرفات غير المعتادة على الدببة؛ حيث إنها تتناول مثلاً التوت البري من شدة الجوع، وهو النبات الذي لا يأكله سوى الدببة الحوامل».

وبينما كان إليوت يتحدث عن الأخطار المحدقة بالدببة القطبية، جذب انتباه السياح شيء آخر، إذ ظهر الدب الصغير وهو يتقلب على ظهره ويرفع مخالبه في الهواء، ويدس أنفه في الجليد، بينما تقف الدبة الأم إلى جواره وتنظر إليه في سعادة غامرة، ولا يظهر عليها علامات التثاؤب، لأن هناك مسافة كبيرة تفصل بين السياح وهذه الحيوانات المفترسة.

الأكثر مشاركة