سكانها الأصليون يعيشون في المخيّمات ويحلمون بـ «حق العودة»
بيت جبرين.. حكايات اللاجئين الحيَّة بعد 68 عاماً
حكاية التهجير واللجوء الفلسطينية جميعها متشابهة، تفاصيلها لا تختلف كثيراً، فالعدو واحد، والوطن المستهدف هو واحد، السكان يرحلون ويهجرون قسراً، ويعيشون كلاجئين إما داخل وطنهم أو خارجه، لتزداد الحكاية قسوة بسيطرة الاحتلال على أراضيهم وقراهم التي تصبح بعد ذلك محظورة عليهم، فيما تبقى هذه الأراضي محفورة في أذهان كل فلسطيني، بل يورثها لأبنائه وأحفاده حتى لا يضيع تاريخ فلسطين وتراثها من ذاكرة الأجيال المتعاقبة مهما طال الزمان أو قصر.
بيت جبرين هي إحدى القرى الفلسطينية المدمرة الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة الخليل، فقد احتلها الصهاينة كمعظم الأراضي الفلسطينية في عام 1948، وتحديداً يوم 29 أكتوبر، حيث تعرض سكانها لتهجير قسري بعد قيام كتيبة جفعاتي الصهيونية بعملية عسكرية ضد سكان القرية، ليعيش جميع أهالي بيت جبرين في اللجوء، سواء داخل فلسطين أو في الشتات بعيداً عن مسقط رأسهم ومنازلهم وأراضيهم حتى يومنا هذا.
طبيعة جذابة
على الرغم من ترحيل سكانها، إلا أن بعض آثار بيت جبرين مازالت ماثلة للعيان، «الإمارات اليوم» تمكنت من دخولها، لرصد معالمها الباقية، فالمشهد في الوهلة الأولى يجعلك تعيش شعورين متناقضين، الفرحة والحزن.
فكل شيء فيها جميل وجذاب، حيث إن تضاريس بيت جبرين جمعت ما بين حياة الجبال والسهول، فنصف أراضي القرية في الجبال، والنصف الآخر في السهول، بل إن أراضيها قسمت ما بين الزراعة ورعي الأغنام والماشية.
آثار باقية
روعة الطبيعة التي تتميز بها قرية بيت جبرين لا تمنعك من مشاهدة معالم القرية وآثارها التي مازال بعضها ماثلاً حتى يومنا هذا، ومن المعالم التي مازالت باقية، مسجد القرية ومقام يطلق عليه (مقام الشيخ التميمي)، وبضعة منازل هجرها أصحابها، منها من بقي مهجوراً حتى الآن، ومنها ما احتله اليهود إما لغرض السكن، وإما تم تحويله إلى مطعم.
أما المسجد فهو عبارة عن بناء حجري مسطح السقف، له نوافذ عالية مقوسة من جميع جهاته، وله أبواب مقوسة من الأعلى، وله في الجهة الخلفية رواق واسع القنطرة تعلوه قبة، فيما تحيط النباتات البرية هذا المسجد.
الزائر لهذه القرية يلفت انتباهه أنها مقسومة إلى قسمين، الأول مغطى بالأعشاب الطويلة والشجيرات ونباتات الصبار، وأشجار الكينا، فيما بات القسم الثاني للقرية وهو المملوء بالآثار والمواقع التاريخية موقعاً مهماً يجذب السائحين والزوار.
وأمام هذه الطبيعة الساحرة، والآثار التاريخية، مازال الاحتلال مصراً على تشويه معالم القرية بالاستيطان كباقي قرى وبلدات فلسطين، حيث تجثم على أرض بيت جبرين مستوطنة صهيونية تحمل اسم (بيت غفرين)، كان الاحتلال أقامها عام 1949 ليكون بذلك قد احتل أرض القرية وهوَّد اسمها.
في مخيمات اللجوء
جولتنا في بيت جبرين مهما طالت فهي ستكون قصيرة مقابل روعة طبيعتها وجمال معالمها، ولكن كما يقول المثل (الجنة من غير الناس ما بتنداس)، فهذا الجمال الذي يشوهه الاحتلال، وهذه الأراضي الفسيحة التي يغتصبها الصهاينة لن يكتمل جمالها إلا بسكانها الأصليين الذين هجروا قسراً، وسكنوا قرى ومدناً داخل فلسطين وخارجها، حيث يقيم معظمهم في مخيمات اللجوء في الضفة الغربية، ومنها مخيم الفوار في مدينة الخليل، فيما أقيم مخيم في مدينة بيت لحم حمل اسم القرية بيت جبرين، أو كما يطلق عليه البعض مخيم العزة، حيث إن ما يزيد على 60% من سكانه ينحدرون من عائلة العزة.
الحاج الثمانيني محمود الحموز يعيش منذ أكثر من 65 عاماً تجربة قاسية مع التهجير القسري واللجوء في مخيم الفوار للاجئين بمدينة بيت لحم، حيث يقطن هو وعائلته في منزل أقامته له وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بعد النكبة، فيما مازال الأمل يسكن قلبه بأن يأتي اليوم الذي سيعود فيه هو أو أحد من أبنائه وأحفاده إلى بيت جبرين، ليمحو بذلك فكرة اللجوء التي قصمت ظهره وأبعدته عن مسقط رأسه.
يقول الحاج الحموز لـ«الإمارات اليوم»، وقد خطت رحلة اللجوء وذكرياته المؤلمة تجاعيد وجهه «إن حروف بيت جبرين محفورة في ذاكرتي، ولن أنسى أزقتها وحاراتها وآبار المياه فيها، ولن أقبل بديلاً عن العودة إلى الحارة الشرقية مهما طال الانتظار، وإن لم أتمكن من نيل ذلك، فسوف يحصل عليه أبنائي وأحفادي الذين تربوا على حب وطنهم، وعلى تاريخ وتراث بيت جبرين».
ويضيف «لن نقبل العيش دون التمسك بحق العودة، ولن نقبل بأي حل لا يعيدنا إلى بلادنا ووطننا الأصلي بيت جبرين، وهو حق كفلته كل قوانين العالم، فنحن لدينا أمل وثقة كبيرة بالله عز وجل أنه وعلى الرغم من معاناة التهجير التي تعرضنا لها، إلا أننا سنعود إلى أوطاننا يوماً ما».
وكان الحاج الحموز قد تمكن من زيارة قريته بيت جبرين مرة واحدة منذ تهجيره عام 1948، وكان ذلك عام 1998 عندما جاء أحد أبنائه زائراً من الأردن، حيث أخذه إلى مسقط رأسه في القرية، وعن ذلك يقول: «كانت اللحظات الصعبة هي أننا قمنا بدفع رسوم تعادل 4 دولارات مقابل الدخول إلى البلدة، باعتبارها منطقة سياحية، ووجدنا القرية كما هي ولم يتغير عليها شيء، باستثناء المدرسة الوحيدة التي بنيناها بأيدينا ووجدنا ملعبها قد حوّل إلى مسبح».
ذكريات لن تموت
ويسترجع اللاجئ الفلسطيني ذاكرته إلى ما قبل الهجرة، حيث يقول: «كنت أسكن مع عائلتي في بلدة بيت جبرين، في الحي الشرقي منها، وكنا نعمل في الزراعة، وكان لدينا مزارع من العنب الرومي، بالإضافة إلى الأغنام والأبقار، وكنا نزرع الحبوب كالقمح والشعير وغيرهما، وكانت لدينا أرض واسعة لدرجة أننا لم نكن نستطيع إحصاءها، فمثلاً كان لكل واحد منا جبال وسهول عدة خاصة به ولم يكن هناك مساحة محددة، لكن في الطابو أذكر أننا كنا قد سجلنا نحو 1000 دونم، مع أننا لم نكن نسجل المساحة الحقيقية خشية الملاحقة الضريبية».
ويشير إلى أن عدد سكان بيت جبرين بلغ قبل النكبة نحو 3000 نسمة، ينتمون إلى أكثر من 10 عائلات، جميعهم كانوا يعملون في الزراعة والرعي وغير ذلك، والآن يعيشون منذ أكثر من نصف قرن حياة اللجوء والشتات في الداخل والخارج.
صور التهجير
بالانتقال إلى مخيم بيت جبرين في مدينة بيت لحم الذي أقيم عام 1950 للاجئين من قرية بيت جبرين، يعيش سكان القرية من جيل النكبة والأجيال المتعاقبة حكايات اللجوء في كل يوم، على الرغم من وجودهم داخل جزء من وطنهم فلسطين، حيث مازالت الحاجة أم سعدي العزة تحتفظ في ذاكرتها بصورة التهجير الذي أبعدها عن قريتها الأصلية.
وتقول الحاجة السبعينية والدموع لا تفارق وجهها، «كانت البلدة تتعرض للهجوم من قبل عصابات الهاغاناه في الليل، وكان الشباب من سكان البلدة يستعدون لها ويتصدون لمحاولات الاقتحام بما لديهم من أسلحة بسيطة حصلوا عليها من الجيشين المصري والأردني، وكنا دائماً نتوجه بواسطة (تراكتور) إلى منطقة باب واد علي، حيث كنا نتوقع أن يبدأ الهجوم من هناك، واستمر التمركز هناك أشهراً عدة».
وتضيف «في آخر ليلة عشناها في القرية، بدأت العصابات الصهيونية بالهجوم بواسطة الطائرات، حيث ألقوا علينا أكثر من 160 صاروخاً، وهذا دفع بالسكان بالرحيل، حيث إن معظمهم غادر بيت جبرين، ولم يبق فيها إلا كبار السن الذين كان مصيرهم القتل والذبح، وأنا أعرف خمسة على الأقل ممن ذبحوا وأُلقيت جثثهم في بئر للمياه، أما بالنسبة للعصابات الصهيونية فكان لديها طائرات ومدافع وأسلحة كثيرة وقنابل وصواريخ حصلوا عليها من البريطانيين، لكن نحن لم يكن لدينا سوى البارودة».
وتتابع قولها بصوت خافت «لجأنا إلى القرى المجاورة، وأقمنا في منطقة تدعى جمرورة قرب قرية ترقوميا غرب الخليل، وهناك أقمنا في المغر (الكهوف)، واخترنا تلك المنطقة كونها قريبة من بلدتنا الأصلية وعلى أمل العودة إليها في أقرب وقت ممكن، وبعد ذلك توزعنا على الضفة الغربية والدول المجاورة، وأقامت وكالة الغوث مخيم الفوار للاجئين فانتقلنا للسكن فيه، وكنا في البداية نحو 4000 نسمة من مختلف القرى والمدن المهجرة، وبقي المخيم عبارة عن بيوت بدائية مسقوفة بـ(الزينكو) حتى عام 1957 حين تم بناء بيوت صغيرة من الباطون والطوب».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news