رفض الأديب الليبي إبراهيم الكوني وسم نتاجه الروائي بما اصطُلِح على تسميته بـ«أدب الصحراء»، كما نفى أيضاً ما تردد عن انتقاده الحاد لـ«تيار الوعي» في الرواية الحديثة، مشيراً إلى أنه يعتبر ذاته كاتباً وجودياً مشغولاً بعلامات استفهام كبرى يجب أن يسعى لطرحها أي عمل أدبي جاد، مضيفاً أن لا أفكار دينية تحكم إبداعاته على وجه الخصوص، فالدين، حسب الكوني، «مكون أساسي في نسيج مختلف أشكال الفنون».
وأكد صاحب رواية «نداء ما كان بعيدا» أن هذه التساؤلات الوجودية «ما يمكن المرء من الوصول إلى ولادة الروح؛ وهي ولادة أخرى غير ولادة الجسد التي تمنحها له الطبيعة، ومن لم يصل إليها فقد عاش حياته ميتا». جاء ذلك خلال ندوة استضافها نادي دبي للصحافة، مساء أول من أمس، على هامش حفل توقيع روايته «نداء ما كان بعيدا»، وتطرق فيها الكوني إلى عدد من القضايا، وبعض الاشكاليات التي ساقته إليها مداخلات الحضور.
الإبداع والدين
ورغم تصدير الرواية بإحدى المقولات الدينية من الإنجيل وتحديداً في سفر الجامعة وهي «بعيد من كان بعيداً، والعميق العميق من يجده»، فإن الكوني حرص على التشديد على وجوب الفصل التام بين إيراد مقولات دينية في عمل أدبي، وبين كون المنجز الإبداعي يتطرق لمعالجة قضايا من منظور ديني، مضيفاً ان «كل الفنون كانت وثيقة الصلة بفكرة الدين في مختلف مراحلها، لا سيما في تاريخية بدايتها، وهو أمر غير مقتصر على النتاج الأدبي بل يتعداه إلى الفن التشكيلي وسواه من قوالب الإبداع البشري، لأن نشأة كل الفنون ارتبطت في الأساس بفكرة البحث عن الإله ومن ثم البحث عن الحرية».
خلق «النماذج»
وحذّر الكوني من مغبة الخلط بين أفكار شخوص الرواية التي أسماها نماذج وبين وأفكار الكاتب نفسه، مؤكداً أن الروائي يجب أن يدافع بقوة عن حجج كل شخوصه الشريرة والخيرة، مضيفاً : «لا أجد غضاضة أن أبدو مبرراً لأفعال الشيطان ما دام أحد نماذج روايتي، وأسعى دائماً إلى الفصل بين قناعاتي وآرائي الشخصية، ومواقف ابطال الرواية».
وساق الكوني أحد الشواهد من روايته الملحمية المجوس قائلاً «في بيئة صحراوية جسدتها هذه الرواية حدث صراع بين شخصين، ورهان من أحدهما للآخر بأن يمنحه كل ما يملك في حال تمكنه من صعود أعلى سطح صومعة منحدرة ملساء، وهو رهان يحوي تساؤلاً وجودياً هو (ما قيمة أن يكسب المرء العالم ثم يخسر نفسه)، نظراً لأن هذا الشخص قد يتمكن من صعود الصومعة بالفعل لكنه من المؤكد لن يتمكن من العودة في أمان من حيث أتى بفعل منحدر الصومعة الأملس»، مضيفاً: «كان يتوجب عليَّ في هذا الموقف أن أقدم حججاً منطقية للقارئ حول المنطلقات الفكرية لكلا الشخصين، بعيداً عن أي منهما الصواب وأيهما على خطأ ، لأن الروائي يجب أن يموت ويحيا مع كل نموذج من أجل إتمام إقناع الآخر به، وكما قال أحد عظماء الرواية، إذا كنت تريد أن تقنع القارئ بفكرة مرة، فعليك أن تتقمصها وتتلبسها 12 مرة».
أدب وجودي
ورغم احتفائه الشديد في أعماله بالصحراء إلا أن الروائي الليبي أعرب عن امتعاضه ورفضه لتصنيف أعماله في إطار ما اصطُلِح على تسميته بـ«أدب الصحراء»، مضيفاً «ما أقدمه ليس أدب صحراء، بل أدب وجودي، لأنني مسكون بطرح تساؤلات كبرى تتعلق بالوجود، وهو دَيدَن أي رواية تطمح لأبعد من مجرد تقديم مادة تسلية للقارئ».
وقال الكوني إن هذه الصبغة تحديداً في الأعمال الروائية الجادة هي ما تؤدي إلى نوع من الالتباس بين همومه وأسئلته الكبرى، التي يطرحها في أعماله وبين الجانب الديني، مؤكدا «أي روائي يجب أن يكون ديِّنَا» .
وجود صحراوي
لكن الكوني حرص في الوقت نفسه على التأكيد على ما أسماه بـ «صحراوية الوجود»، مضيفاً ان «الوجود عادم وزائل وفانٍ وممل، والصحراء بوجود الروح انتهاء الوجود، أما المدينة فهي بوجود الروح خواء، وليس مصادفة أن تكون الصحراء على امتداد التاريخ هي منتجة النبوءات، فالتأمل هو تسلية الأمة العابرة في الصحراء، والتأمل ذاته هو أهم مقدمات أي نبوءة، أو دين، فالإنسان الدَيِّن هو الإنسان المتأمل والعكس».
وذكر الكوني أن هناك خلطاً كبيراً في الأدب الروائي العربي بين رواية التسلية أو الخواطر والهواجس، وبين الوظيفة الحقيقية للرواية التي يجب أن تنصب على الطرح الفلسفي أو الوجودي، مشيراً إلى أن الأعمال الشكسبيرية استطاعت أن تستغرق مختلف مقاصد الرواية الجادة.
اغتراب ثقافي
ونفى الكـوني ما تردد عن انتقاصه من انجازات «تيار الوعي» في الرواية الحديثة وانجازات بروست وجيمس جويس في هذا الإطار، مشيراً إلى أن تصريحاته في هذا الخصوص أسيء فهمها، حيث قال: «ما قلته هو ان من يتذرعون بأعمال بروست مسوغاً للتغاضي عن الواقـعية مخطئون، فالتداعيات الشعرية أو الروائية، أو شروط السرد، يجب أن تتضمن رسالة، لأن الإبداع سؤال كبير، ومن لا يطرح أسئلة كبرى لا متعة له أو للمتلقي، في حين أن المتعة يجب أن تكون قرينة الروح الرسالية في أي عمل إبداعي».
ومن هذا المنطلق عرج الكوني إلى الحديث مرة أخرى عن علاقة الإبداع بالوجود من منطلق تنظيري مختلف يرى فيه أن «كل امرئ لن يكون سعيداً إلا إذا أعاد ولادته»، فهو يرى أن الإنسـان يجـب أن يولد مرتين، أولاهما ما أسماه بـ«ولادة الطبيعة» وهي الولادة البيولوجية للجسد، والثانية وهي الأهم ما اعتبرها ولادة «الروح» ويقصد بها اختيار كل منا لنسقه القيمي الذي يتسق به مع ذاته وقدراته، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن «من لا يستطيع الظفر بولادته الثانية فكأنما عاش ميتاً أو عاش حياة عبثية، مستشهداً بإحدى الآيات القرآنية «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
ونبه الكوني إلى أنه ليس من وظيفة المبدع تسجيل الواقع أو محاكاته أو حتى إيجاد حلول له، لأن عليه أن يظل دائماً محافظاً على مسافة ما تفصله عن هذا الواقع وتمكنه في الوقت نفسه من رصده التأملي، «لأن المبدع لا يعيش في الحقيقة بل في ظلال الحقيقة، وهي حياة تؤدي به إلى العيش في اغتراب متواصل عن المجتمع، وهو الاغتراب الذي عاشه جميع الأنبياء، وهكذا المبدع وُلِد ليغترب عن واقعه لأن الإبداع أو الثقافة اغتراب».
«نداء ما كان بعيداً»
«نداء ما كان بعيدا» هو العمل الأدبي الذي يحمل رقم 60 في إبداعات الروائي الليبي إبراهيم الكوني، الذي لا يخلو لقبه «الكوني» من توصيف فعلي لنمطه الروائي الذي يتململ فيه من حدود المكان ليطرح تساؤلات كونية ووجودية كبرى ساهمت نشأته في الصحراء الكبرى بإذكاء انشغاله بها، قبل أن يستكمل دراسته الجامعية بموسكو ويقيم لاحقا في سويسرا.
ورغم أن عدداً كبيراً من الباحثين يصنف أعمال الكوني ضمن ما بات يعرف بـ «أدب الصحراء» إلا أن الكوني نفسه يرى أن «ليس ثمة أدب يمكن أن يطلق عليه صحراويا» معتبراً أن التصنيف الصحيح لأعماله الروائية يضعها ضمن «الأدب الوجودي».
الكوني الذي يحمل في جعبته تسع جوائز دولية منحت له في كل من فرنسا واليابان وسويسرا والمغرب فضلاً عن بلده ليبيا جاءت أحدث رواياته «نداء ما كان بعيدا» في 475 صفحة من القطع المتوسط مقسماً إياها إلى تسعة أقسام رئيسية.
|