«الديكاميرون».. حديقة ملذّات سينمائية
من البديهي أن تتردد طيلة الوقت عبارة «إنه عصر الصورة»، والتنويع على بديهية هذه الحقيقة، وتكرارها إلى ما لانهاية رغم كون كل ما يحيط بنا يؤكد ذلك، لكن ليس من البديهي أن أعود إلى عام 1971 لأتأكد من ذلك، وتحديداً إلى فيلم يقتبس عملاً أدبياً يعود إلى القرن الـ.14 عبارات مبهمة.
ومشاعر قابلة للتأويل، هو أفضل ما يمكن أن يبدأ به المرء لدى الحديث عن عمل سينمائي ارتكبه المخرج الايطالي بيير باولو بازوليني، وليتحول ما اعتبرناه بديهياً إلى شيء آخر، له أن يكون خطراً، بمعنى أن المؤلف الشهير الذي كتبه جيوفاني بوكاشيو «الديكاميرون» أو «حديقة الملذات الدنيوية» كما اصطلح على وصف ذلك الكتاب الذي يحمل 100 قصة يحكيها في 10 أيام سبع سيدات وثلاثة شبان، وحين يتحول إلى فيلم، وعلى يدي بازوليني، فإنه بالتأكيد سيدفعنا لا لقول إنه عصر الصورة، بل التأكيد على سحر الصورة، وغوايتها.
وجمالها حين يحول بازوليني ما يقرب من ال10 حكايا من حكايات الديكاميرون إلى فيلم ليس له أن يكون إلا احتفالية مدهشة بالحياة، مضاعفاً من سحر تلك الحكايا عبر تجسيدها بصرياً، وبالإيقاع المعروف لهذه الأسطورة السينمائية، ولتكون النتيجة فيلماً يمتزج فيه الخداع بالبراءة، والسذاجة مع الخيانة، وشخصيات تحمل كل تناقضات البشر، إضافة إلى نقل هجائية بوكاشيو لرجال الدين المسيحيين، ومفاهيم الخطيئة والفضيلة إلى مستويات أشد وقعاً، ذلك أن الأداة هنا هي الصورة والسينمائية والمحنكة. فيلم «الديكاميرون» هو جزء من ثلاثية أطلق عليها بازوليني اسم «ثلاثية الحياة»، ففي عام 1972 أخرج «كونتربري تيلز» (حكايا كونتربري) العمل الأدبي الضخم الذي كتبه جيوفر تشوسر في القرن الـ14 أيضاً وتحديدا عام 1380، والذي يعد إلى جانب «الديكاميرون» .
التراث القصصي الأهم في نهايات العصور الوسطى الأوروبية، ولينهي بازوليني تلك الثلاثية بفيلم «ألف ليلة وليلة» وليكون بذلك قدّم بحق «ثلاثية حياة» باعتبارها اسماً على مسمى، وبالاتكاء على ثلاثة أعمال قصصية تعتبر خالدة على مر الأزمان. في «الديكاميرون» يستعين بازوليني كعادته بأناس عاديين يكون ظهورهم في الفيلم للمرة الأولى، وعليه نتعقب في هذا الفيلم وجوهاً متعبة مليئة بالغضون والتجاعيد، وآخرون أسنانهم متكسرة، وغير ذلك من البشر دون رتوش أو مكياج، ويمضي الفيلم في سرد حكايات «الديكاميرون».
بدءاً من ذاك التاجر الشاب الذي يتعرض للخديعة على يد امرأة تدعي أنها أخته، مروراً بدير الراهبات اللواتي يتقاسمن بستانياً يدعي أنه أبكم وأصم، وصولاً إلى الكاهن المخادع الذي يدعي بأنه يستطيع تحويل زوجة الفلاح الفقير الذي يستضيفه في بيته إلى مهرة، وقصة الرسام الذي يأتي للرسم على جدار الكنيسة، والكيفية التي يصيغ بازوليني حوله قصصاً يستوحي منها عمله، دون أن يتمكن من تجسيدها، فهو محاصر بقصص عشاق، وخيانات زوجية، وفتاة يقتل أخوتها حبيبها فتمضي إلى المكان الذي دفنوه فيه فتقطع رأسه وتحتفظ به في أصيص بغرفتها، وتقول «آه لو كان بمقدوري أن احتفظ بجسده».
وغير ذلك من قصص تحاصر ذلك الرسام الذي مثل دوره بازوليني بنفسه، قصص حسية، فاسقة وفاحشة، بينما عليه أن يرسم أيقونات ومشاهد دينية وملائكية، ولينتهي الفيلم وسيل قصص «الديكاميرون» بقول الرسام «لمَ علي أن أرسم هكذا بينما ما أحلم به أشد جمالاً؟. الشعور الذي يمنحه الفيلم بعد مشاهدته، شعور بالاحتفاء بالحياة، بدنيوية الانسان، بمباهجه، بقدرته على اتباع ما تمليه عليه حواسه فقط، منفلتاً من أي قيد أو حدود تمليها أفكار مجردة مسبقة الصنع، فيلم بازوليني، وربما مجمل أفلامه تلاحق هماً فكرياً وآخر جمالياً وكلاهما من التمرد والمغايرة ما يجعلهما يتهددان كل ما تركن إليه البشرية من عقائد جامدة وبائدة.