خيري الذهبي: المخـيّم والـريف لايـنتجان رواية

أشعل الروائي السوري خيري الذهبي سجالاً في مؤتمر الرواية الأخير في القاهرة حول ما سماه أدب الفراش، وقبل ذلك بسنوات فتح معركة لعلها الأعنف له مع الأدب الفلسطيني تتعلق بموضوعه الكتابة والمنفى، ليروّج عنه أنه ربط الكتابة الروائية بالاستقرار المكاني،

وفي ما إذا كان المنفيون قادرين على التصدي لكتابة الرواية، إلى جانب معارك مع اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، وسواها من معارك.

كانت تلك سجالات ليست غريبة على كاتب «يعارك» نفسه أحياناً، حين يراجع ما كتب، ويعترف، بجرأة مثقف أصيل، بأنه سار خطأً في درب ليس له، كما يعترف في حوارنا هنا. فماذا يقول صاحب «ملكوت البسطاء»، و«التحولات»، و«لو لم يكن اسمها فاطمة» و«صبوات ياسين» في كل ذلك؟

ماذا عن الرواية والمكان، واللجوء إلى التاريخ في أعماله، وسواها من إشكالات؟  وعن مدى إمكانية اعتباره كاتب دمشق، مثلما كتب نجيب محفوظ القاهرة، واورهان باموق اسطنبول، قال الذهبي « كل كاتب روائي لا بد له من مكان يجري فيه أحداثه الروائية، وأفضل الأمكنة،

كما أعتقد، هي أمكنة الذاكرة، أي المكان الذي عشتَ فيه طفلاً وتشبعت بدهاليزه وزواياه، وعتمته ونوره وأوراق شجره المتساقطة»، وأضاف الذهبي « أتمنى أن يقال عني إني كاتب دمشق، فهذا فخر كبير لي.

ولكني أعتقد أني لم أحز هذا الشرف بعد، رغم أني جعلت من دمشق ومن حارة القنوات ومن بيوتها مكاناً أسرح فيه في رواياتي، قد أشرّق وقد أغرّب، ولكني سرعان ما أعود إليها، فهي المكان الذي يمكن أن يوحي إليّ بكثير من الدفء في الكتابة».

وأضاف الذهبي « في فترة من الفترات، وأثناء كتابة عدد من الروايات، التي استجبت فيها إلى الضغط الثقافي المسيطر على الساحة السورية، في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت البعثية هي المسيطرة على الشارع، رغم أني لم أكن يوماً بعثياً، إلا أن العروبة اختلطت بالبعثية بحيث صار من الصعب أن تفصل بينهما.

ذلك الجو الذي كان يمكن أن يكون على سورية أن تكون وطناً دائماً للسوريين، ومن المؤسف أن سورية المعاصرة، لم يصنعها أبناؤها، بل فرضت على يد لويد جورج، وصبييه سايكس وبيكو، ليجد السوريون أنفسهم فجأة مفصولين عن محيطهم محبوسين في حدود لم يشاؤوها،

لذلك لم يكن غريباً أن سورية لم تصدر في تاريخها كله حزباً سياسياً واحداً يعلن أن سورية وطن نهائي، بل كانت الأحزاب دائماً تعلن السياسة وتعلن أن سورية وطن معبر إلى وطن أكبر وأجمل، قد يكون الوطن العربي، وقد يكون سورية الكبرى، أو الأممية الإسلامية».

وحول تفسيره للعلاقة بين الكتابة والمكان على خلفية ما قاله الذهبي في تصريحات إن ابن الريف لا يمكنه أن يكتب رواية. وإن الفلسطينيين لم يكتبوا الرواية لأنها  تحتاج إلى مكان، والفلسطينيون في المنفى قال الذهبي «أنا لم أقل إن الفلسطيني لم يكتب رواية،

هذا تحريف لكلامي، بل قلت إن فلسطينيي المخيمات، الذين يعيشون في مكان يكرهونه، أي المخيم، ويحنّون إلى مكان لم يروه، أي فلسطين الذاكرة، وقعوا بين هذين الشرطين، فكان الكاتب معمّى في كتاباته،

وكان بحكم كونه فلسطينياً محكوماً بقدر صعب، وهو أن فلسطيني المخيم لا يستطيع أن يكتب رواية دون أن يذكر فلسطين. لا أذكر أني قرأت رواية لابن مخيم دون أن يذكر فلسطين التي لا يعرفها.

فإذا ما ذكر فلسطين هل يستطيع ألا يذكر الإسرائيلي الذي يحتلها الآن، وإذا ما ذكر الإسرائيلي الذي يحتلها الآن هل يستطيع أن يكون محايداً حين ذكره؟

شروط ثلاثة قاسية جعلت عجلة الكتابة شديدة الصعوبة على الفلسطينيين، و لكن هذا لا يعني أن سحر خليفة ليست روائية عظيمة، وجبرا الذي خرج من فلسطين في سن الرشد لم يكن روائياً عظيماً جداً، وهذا لا يعني أن إميل حبيبي لم يكن كاتباً عظيماً.

أما حديثي عن الريف فأنا أعني الريفية المقيمة ضمن علاقات ريفية يعرف كل أحد فيها كل أحد، والرواية فن النميمة فكيف ينمّ عن أناس سوف يواجههم في اليوم التالي؟

ولكن حين ينتقل إلى المـدينة ويعيش في شروطها، كما فعل الروائي العظيم هاني الراهب، وكما يفعل جيل كبير من الروائيين السوريين فالرواية قد طاعت لهم.  ولا أذكر أن كاتباً كالعجيلي ليست لديه في كل كتاباته شخصية نسائية من الرقة، فهو يخاف من ردود أفعال أهل الرقة حين يرون نساءهم في رواياتهم».

وعن مدى انشغاله بالشكل الروائي أوضح الذهبي «كل رواية ترتدي شكلها منذ السطر الأول للكتابة، أنت لا تصنع قالباً ثم تسكب فيه روايتك، فالرواية مخلوق حي يبدأ نطفة فعلقة فجسداً فمخلوقاً، لا يفكر كيف سيكون في المستقبل، إنه يصنع شكله الخاص.

في مؤتمر القاهرة للرواية استمعت إلى كاتبة، ساذجة ولا شك، كانت تتحدث عن أنها كتبت في كل أشكال الرواية، وأنها سمعت بالرواية الرقمية وتبحث عن كيفية كتابتها! الكاتب الذي يتقن مهنته لا يفكر بهذه الطريقة.

كل رواية تبتدع شكلها وشخصيتها منذ أن تقرر أن تولد.

فقر لغوي

وعن السجال الذي  أثارته بعض تصريحاته حول الرواية الجديدة  أشار الذهبي «في مؤتمر الرواية في القاهرة، اجتمعنا أنا والكاتب الكبير بهاء طاهر والناقد الكبير محمد برادة والكاتبة الكبيرة علوية صبح،

وعدد من الكتاب المصريين الشباب (وليعذروني الآن لا أذكر أسماءهم) فتحدثنا كل بدوره عن الكتابة الشابة، وكان البعض متحمساً للكتابة الشابة الخفيفة على مستوى اللغة، وبناء الشخصيات، بل تطرّف أحدهم ليتحدث عن مدوّنات الانترنت.

ولما جاء دوري بالكلام تحدثت عن الفقر اللغوي الذي يعيشه بعض الأدباء الشباب، فتقرأ رواية تعدّ مفرداتها التي لا تتجاوز الـ400 مفردة من لغة ثرية هي العربية. قلت صار الكاتب يقول: جلست تحت الشجرة، ولا يعرف إن كانت شجرة صفصاف أو بلوط أو شربين. ويقول مرّ فوقي طائر ولا يعرف إن كان الطائر حمامة أو غراباً. * تنشر بالتزامن مع صحيفة السفير اللبنانية

الأكثر مشاركة