لدغة الكتاب

خليل قنديل

     
إن المُبدع حين يذهب إلى أقصى أمكنته التخيلية. فإنه يكون بهذا الذهاب قد جعل روحه تحط على عتبة المُشاهدة الجمرية، التي تجعله حينما يود العودة الى نقطة انطلاقته الواقعية المؤثثة بالأمكنة والناس، يحس بفقدان التوازن. والشعور بأن الأرض قد باتت رجراجة تحت قدميه، وان مسّ التخيل اللاذع قد لا يتيح له العودة المعافاة الى واقعه الأساس. وانه قد يشقى كثيراً حتى يستعيد عافيته الواقعية. إن الكتابة والفن بعامة قد يتحولان أحيانا الى منطقة سارقة وناهبة. هذا يحدث عندما يندغم الفنان أو الكاتب مع نصه الى الدرجة التي يصير فيها هو النص ذاته يمشي على رجلين. وهذا ما جعل العديد من الكتاب والفنانين يذهبون الى فعل الإقدام على الانتحار، او السقوط في فخ الجنون.

 

فأن يذهب الفنان الهولندي «فان جوخ» في اللون وتنوع اشعاعات التلون في عبّاد الشمس الى درجة قطع أذنه وتقديمها الى حبيته؛ فهذا يعني ببساطة أن لذاذة التخيل أفقدته القدرة على التواصل مع الواقع. أو يذهب الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشة في آخر أيامه الى تقبيل البغل الذي يقود العربة. وهو صاحب الانسان الزرادشتي السوبرمان. فهذا يعني أن خياله قد تبدد وتمزق بين كائنين مختلفين!.

 

ومنطقة الكتابة تبدو كأنها أكثر قسوة على صاحبها حينما تحس بأن صاحبها قد أخذ الى مناطق أخرى، قد يكون الأساس فيه هو الواقع ذاته. وتتجلى هذه القسوة في إقدام المُبدع على إحراق كتبه والتنكر لها. واعتبارها «أي الكتابة»، حالة اقل مستوى من قامة الواقع.

 

فهذا أبو حيان التوحيدي يتحول الى علامة عربية متميزة في الإرث الابداعي العربي وهو يُقدم على إحراق كتبه مقتديا بأئمة منهم أبو عمرو بن المعلا الذي دفن كتبه في باطن الأرض. وداود الطائي الذي طرح كتبه في البحر، وأبو سليمان الدراني الذي جمع كتبه وسجرها بالنار.

 

وعلى صعيد الإبداعات العالمية يقول الكاتب الارجنتيني «ارنستو ساباتو» في كتابه «معالجات في الادب»، ان الفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر» قد تبرأ عام 1964 في حديث صحافي من مؤلفاته الأدبية مبررا ذلك بالقول «إن رواية من نوع «الغثيان» لاتملك الحق بالبقاء إذا كان هناك من يموت جوعا في العالم، ولو طفلاً واحداً». واعترف بأنه ما زال يعتبر البشر وحوشاً عاجزة لكنه يعتقد أيضاً بأن هواجسهم الميتافيزيقية يجب وضعها جانبا كأمر كمالي بل خيانة.


وفي هذا الاطار التنصلي من الكتابة يمكن استذكار الكاتب «فلاديمير نابكوف» صاحب الرواية ذائعة الصيت «لوليتا» الذي طلب من ابنه أن يحرق روايته التي لم تنشر بعد. مثلما يُمكن استذكار الكاتب الفذ «فرانز كافكا» الذي طلب من صديقه «ماكس بورد» أن يحرق كل اعماله. والذي يمكن القول إنه لولا نباهة «ماكس بورد» وثقته بالعافية الابداعية التي كان يتحلى بها صديقه «كافكا»، لما اتيح لأحد أن يقرأ تجربة «كافكا» المتميزة.

 

إن ظاهرة إحراق الكتب الابداعية والتنكر لها من قبل اصحابها تبدو كأنها الفعل الانتقامي الذي يمارسه المبدع لحظة وصول رأسه الى أرض الواقع سالماً. وهي فرحة النجو من «لدغة» الكتابة. تلك «اللدغة» التي أكلت الكثير من الرؤوس المُبدعة، وما زالت.

 

khaleilq@yahoo.com

تويتر