صحافة محنط

 

أوصلتني خبرتي الطويلة «نسبياً» في كتابة المقالات الثقافية، إلى قناعة تتعلق بالمشهد الصحافي العربي، مع الأخذ في عين الاعتبار بعض الفروق بين صحافة عربية وأخرى، وإن كانت طفيفة أحيانا. أتذكر كيف برزت ظاهرة التحقيق الصحافي عبر الهاتف..
سؤال يطرحه الصحافي من على مكتبه في الجريدة، على كاتب أو مثقف، ويسجل بضعة أسطر حول قضية أو شخصية ما. ويطرح السؤال نفسه على عدد آخر من الكتاب والمثقفين، لتخرج الصحيفة في اليوم التالي بتحقيق صحافي! وحين شاعت أسماؤنا محلياً، أخذ بعض الصحافيين في التوجه نحونا لإجراء حوارات صحافية.
 
وإذ كنا مفتونين في البدايات بذلك، فقد اكتشفنا أن هؤلاء الصحافيين لا يعرفون عن الكاتب إلا بضع كلمات من هنا وهناك، ولم يقرأوا له قصة أو قصيدة، وأن أسئلتهم يمكن تعميمها على الكتاب كلهم. هذا كله يمكن معالجته، وذلك من خلال الامتناع عن التجاوب مع هذه الأشكال الصحافية السطحية والعابرة والمشينة أيضا. لكن ما يصعب تجاوزه بعد عقود من تجربة الصحافة الثقافية، هو هذه الملاحق المحنطة في الصحافة الثقافية العربية.
 
فغالبية هذه الملاحق الثقافية، أصبحت مجرد جرائد حائط مدرسية، يعلق عليها بعض الكتاب قصائدهم وقصصهم ومقالاتهم. ولا نعثر في أي من هذه الملاحق على قضية ثقافية ملحة، أو تحقيق ثقافي يتناول قضية ثقافية أو حدثاً ثقافياً مهماً.
 
أما عرض الكتب الجديدة والقديمة، فقد أصبحت مجال تندر وسخرية، بالنظر إلى هذه الفتوحات الإبداعية التي تشير إليها المراجعات النقدية الصحافية. وأصبح من النادر جدا، أو المعدوم، العثور أو الإشارة إلى كتاب رديء صدر هنا أو هناك. فكل ما يصدر يعتبر في هذه الصحافة الثقافية العربية إضافة نوعية إلى المكتبة العربية!
 
ولكن أخطر ما تعيشه الصحافة الثقافية العربية في بعض البلدان، هو هذا الخوف الذي يسكن مسؤوليها ومحرريها والقائمين عليها.
 
 وهو خوف يتعدى الخوف النمطي من عقاب السلطة السياسية، ليشمل الخوف من التعرض لما يعتبر إساءة إلى بعض الشخصيات الأدبية والثقافية. وهو ما يفسر هذا الركود في الحوار الثقافي على الصفحات الثقافية. وهو الحوار الذي يغني عادة عن كثير من قراءة القصائد والقصص المتشابهة. لا حوارات، ولا نقاشات، ولا قضايا ثقافية تثار هنا أو هناك.
 
 ثمة قصص وقصائد وبضعة مقالات يتم تثبيتها أسبوعياً، وكفى الله المؤمنين شر القتال. فهل هكذا تقوم صحافة ثقافية بمهمتها الحقيقية؟ وهل تلعب هذه الصحافة دوراً حقيقياً في تحريك المشهد الثقافي وتطويره وإثرائه؟ لقد أدى الخوف من المكاشفة، والخوف من إعطاب علاقة شخصية، إلى السكوت عن كثير من الخطايا، وإلى التسليم بمشروعية الرأي المطروح وصحته، طالما لم يكن ممكنا التحاور معه.
 
  أصبح التصنيم أمراً شائعاً، بل وربما مطلوباً من بعض القائمين على هذه الصحافة الثقافية، ولم يعد في وسعنا محاورة الآخر القريب، بينما يتم التطاول على قامات ثقافية عالمية، من زوايا رؤية خاصة، فنسمع من يسيء إلى فلوبير حتى اليوم كما يشاء، ومن يحقر د. هـ. لورانس، فقط لأسباب تبدو أخلاقية. نعم، يمكنك أن تسقط فلوبير ومدام بوفاري من الصحافة الثقافية العربية في سهولة ويسر، ولكن لا يمكنك أن تلامس صديقاً أو زميلاً هاوياً.. يا لهذا الخوف!  
 
    damra1953@yahoo.com 

الأكثر مشاركة