«المُريد» متصوف من دبي.. و«أحلام» إلى آخر الألم

 

يستدعي الشغف أحياناً إجراءات صارمة للوفاء به، وحين يتحول الأمر إلى هوس، يكون قد لامس شيئا عميقا في داخلنا، وبالتالي نمضي في تعقبه دون أن نشعر بأن في الأمر  تكبد عناء أو مشقة، بل لذة اكتشاف ورغبة في المزيد. هذا التقديم السريع صالح جدا لأن يسلط الضوء على محفزات الفيلم الإماراتي  «المريد» المشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية بمهرجان الخليج السينمائي، الذي اختتم فعالياته، أول من أمس، ومشاهدة خالد البدور، الذي كتب الفيلم وهو يلاحق هوسه بشخصية المتصوف عبد الرحيم المريد، وتعقب عوالمها ومصادرها وكل ما يتعلق بها من قريب أو بعيد.
 
عبر معالجة إخراجية لافتة لنجوم الغانم، وهي تبقي وهج المتابعة حاضراً، تارة بالاستعانة بالصمت، وتارة أخرى بالتنويع على زوايا الرؤية التي تقارب بها شخصية المريد. أعود إلى الهوس الذي بدأت به، لنجده في الفيلم نابعاً من دوافع عدة، تتراوح بين الشخصي، كإعجاب بشخصية المتصوف عبد الرحيم المريد، والصوفية عموماً، وآخر على علاقة بمدينة دبي، ولذة اكتشاف شخصية مثل المريد، للزمن أن يكون متوقفاً لديها، وخاصة ونحن نرى الكاميرا ترصد أبراج شارع الشيخ زايد، وحركة التطور المدهشة في سرعتها التي اجتاحت دبي.
 
 بينما ابنة المريد تدل الكاميرا على بيت لم يعد موجودا، وأشياء كثيرة غابت لكن المريد أبقاها، وليأتي بعد ذلك إصرار تلامذته وأتباعه على مواصلة الموالد والطقوس التي أطلقها المريد، ثم كما يرد على لسان البدور: انعدام وجود مراجع توثق للصوفية التي أسسها المريد في دبي. لعل الفيلم تصدى لتلك المهمة ووثّق كل ما له صلة بالمريد الذي ولد عام 1902 وتوفي العام الماضي، وسمعنا طوال الفيلم شهادات تنوعت بين أتباعه وعائلته، وهو شخصياً، هو الذي بدأ غواصاً، ومن ثم تاجراً بين الإمارات والكويت والسعودية، وصولاً إلى آخر مولد حضره ولم يستطع أن يبدأ الغناء فيه، ذلك أن صحته لم تساعده، مرورا بطقوس الموالد و«ضرب الابر والشيش والسيف».
 
 الأمر الذي قاد البدور كما تلاحقه كاميرا الغانم إلى العراق للتعرف إلى المذهب الرفاعي الذي ينتمي إليه الشيخ المريد. يبدو أن الفيلم استغرق زمنا طويلا ليخرج إلى النور، وعلى ما يقرب الثلاث سنوات، لكنه ضريبة الشغف، ومن ثم الهوس، ولعل الإمارات بحاجة ماسة لهكذا أفلام توثق لحياة مغيبة خلف الأبراج والحياة الحديثة التي تتزايد سرعتها يوما بيوم، توثيق بحرفية عالية كما جاء عليه فيلم نجوم الغانم. أنتقل من فيلم الغانم الوثائقي إلى الفيلم العراقي «أحلام» الفائز بجائزة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الخليج السينمائي، الذي لم يكن فيه من الأحلام إلا اسم الشخصية التي يرصد مصيرها، بينما جاء كل ما فيه بمثابة كوابيس حالكة من شدة القسوة.
 
وغزارة الدم، كون  الفيلم يوثق روائياً لحظة تاريخية مفصلية، تتمثّل بما سبق سقوط بغداد، وتحديداً في اليومين اللذين سبقا سقوط نظام صدام حسين، وعبر مشفى الأمراض النفسية في بغداد عام .2003 يبدأ الفيلم من لحظة القصف الأميركي لبغداد، والهلع الطافي على وجوه نزلاء مشفى الأمراض النفسية، ليعود بالزمن إلى استعادة مصير كل شخصية من الشخصيات الثلاث الرئيسة في الفيلم، والمجتمعة كما سنعرف في ذلك المشفى. 
 
 فأحلام طالبة لغة انجليزية نشاهدها تتلقى تعليمها في الجامعة، وتعود إلى بيتها بواسطة قارب يعبر دجلة، وقد حمل إلى جانبها حسن المجند المتوجه للالتحاق بثكنته، إضافة لمهدي الطالب في كلية الطب. يمضي الفيلم في تعقب مصير كل شخصية على حدة، فأحلام يعتقل زوجها في يوم زفافها، الذي تربطه بها علاقة حب طويلة،  بينما يقتل حسن في قصف تتعرض له القوات العراقية عام 1998، بينما لا يتمكن مهدي من استكمال الاختصاص الذي يرغب به، كون والده كان شيوعياً وهو ليس بمنتمٍ لحزب البعث.
 
 هذه المصائر تقود تلك الشخصيات إلى أن تجتمع في مشفى الأمراض النفسية، عدا حسن الذي يستعيض عنه بعلي صديقه، الذي ينجو من القصف، لكنه يحمل حسن المصاب ولا يتمكن من الوصول إلى من قد يسعفه، فيمضي به إلى الحدود السورية، كون ذلك حلم حسن الذي كان لا يرغب بأن يدافع عن «صدام والبعثيين»، بل أن يهرب إلى سورية ومن هناك إلى أوروبا. فيلم «أحلام»، الذي أخرجه وكتبه محمد الدراجي، يتحرك في الخراب، خراب ما سبق الغزو الأميركي، وأثناءه، والأمر يتخطى ذلك مع اصرار الدراجي أن يشعرنا بحجم المأساة، بهول الكارثة، اتساع وامتداد ما ألحق بالوطن العراقي من تشويه وتنكيل على كل الأصعدة، كما لو أن الجيش الأميركي وهو يدخل بغداد، كان يدخل إلى جهنم جاهزة يتضاعف جحيمها مع القصف الأميركي.
 
كما أنه لا يكتفي أن يرينا كيف تستأصل قطعة من أذن علي عقاباً على فراره من الجيش بل يدعه يقتل على يد فدائيي صدام بعد خروجه من مشفى الأمراض النفسية، كما أنه لا يدع لأحلام أن تكون تائهة في شوارع بغداد بينما تتعرض للسلب والنهب فقط، بل يدعها تتعرض للاغتصاب على يد رجال العصابات. إلى آخر الألم يمضي فيلم الدراجي، إلى أقصى ما يمكن أن يكون معبراً عن الوحشية التي عانى منها العراق على يد جلاده، وكل مشهد فيه يحكي عن ذلك، دون رحمة بنا نحن المشاهدين، ذلك أنه واقع لا يعرف الرحمة بدوره. فيلم «أحلام» له أن يكون مرثية وطن مضمخ بالدماء، ومبلل بالدموع، لا يبحث عن أمل، بقدر ما يؤكد على حجم المأساة.
 
المخرج الإماراتي عبدالله حسن أحمد الذي فاز فيلمه «تنباك» أمس بجائزة أفضل فيلم روائي قصير في مهرجان السينما الخليجية. في حين فاز فيلم  «أحلام» للمخرج العراقي محمد دراجي بجائزة أفضل فيلم روائي طويل، وذهبت جائزة الأفلام التسجيلية إلى المخرج عامر الزهير. عن فيلم «عندما يتكلم الشعب». 
تويتر