الرواية حين تحتل التاريخ
على الأغلب، لم يتوقع الكاتب الإسباني ثرفانتيس، حينما مضى في التاريخ مقهقهاً من البطولات المتورمة لفرسان القرون الوسطى، عبر روايته الذائعة الصيت «دون كيشوت»، التي أسس فيها للرواية كفن يمكن أن يُحبر؛ أن تصل الرواية كفن سردي الى هذا المستوى من الجاذبية العالمية على صعيد القارئ المتلقي، وعلى صعيد النزوح الممغنط للكتاب عموما من جميع خنادقهم وقنواتهم الكتابية، نحو الرواية، الى الدرجة التي بات فيها هذا الفن الكتابي، هو ديوان العصر الحالي بامتياز.
وعلى الأغلب أيضا لم يتوقع أشقياء جمر الكتابة الروائية من الرواد الذين حفروا عميقاً في تراب المجرى التاريخي لهذا الفن، أن تذهب الرواية لتشرب من تخوم وآماد في رحلة تأصيل مضمونها وتصليبه، الى الواقعة التاريخية، كي تُعيد إنتاجها من جديد. نعم صارت حادثة ذهاب الروائي الى المفاصل التاريخية البشرية، وتحت وطأة الاغواء الكتابي والروائي، بهدف إعادة إنتاج هذه الحادثة وتزويقها ابداعياً، ظاهرة واسعة الانتشار. وفي استدراج الأمثلة التي تؤكد هذا النهج يمكن ملاحظة أن رواية «الخيميائي» للروائي باولو كويلو، والتي استطاعت ان تسجل اعلى الارقام القياسية على صعيد التوزيع، وعلى صعيد ترجمتها الى اكثر من ثلاثين لغة، قد اعتمدت في موضوعها الاساس على حكاية شرقية من حكايات ألف ليلة وليلة، وأعادت إنتاجها بما يتناسب مع أسطرة الواقع المعيش، ومع الواقعية السحرية تحديداً، والغريب أن كويلو الذي شرب من الماء الحبري والسردي لـ«ألف ليلة وليلة»، لم يكلف نفسه عناء الإشارة الى هذا المصدر السردي الذي منح روايته كل هذه الخصوبة. أما الكاتب الأميركي «دان بروان» فقد بدا في روايته الذائعة الصيت «شيفرة دافنشي» وكأنه يذهب الى التاريخ بساطور، استطاع ومن خلال ضرباته في جسد الحادثة التاريخية، كي يسرد حادثته الروائية، ان يشكك بيقينيات وقناعات راسخة في الديانة المسيحية. وقد فعل براون هذا من خلال احتلالين للتاريخ، الأول هو احتلاله التفصيلي للوحة «دافنشي» الموسومة بـ «العشاء الأخير»، والثاني هو احتلاله لحادثة العشاء الأخير ذاتها. ونلحظ أن الكاتب البيروني «ماريا فارغس يوسا» قد ذهب في روايته «الفردوس على الناصية الثانية»، وتحت وطأة ولعه حد المس بالفن التشكيلي، وبرموزه، الى القرن التاسع عشر، كي يُشيد مناخاته في هذه الرواية، من تلك الحياة الخصبة التي عاشها الفنان «بول غوغان» وجدته «فلوريتا». ومن يقرأ هذه الرواية لابد وأن يتأكد من أنه لو يتاح لـ«غوغان» النهوض من قبره، لا بد وأن يُصاب بالدهشة، من هذا الروائي الذي استطاع تقمص روحه الى هذه الدرجة من الفضائحية.
وفي الاطار ذاته تتحدث الاوساط الأدبية في بريطانيا هذه الأيام عن مؤلفة مجهولة ومغمورة استطاعت ان تسجل نفسها مبدعة في مجال الكتابة التاريخية وتثوير حادثتها من خلال روايتها الموسومة بـ«سرشكسبير». وتسرد الرواية حكاية شابة أميركية تعمل مخرجة مسرحية في مسرح «جلوب» تموت صديقتها مسمومة بالطريقة نفسها التي تسمم بها الملك في مسرحية هاملت. الى هذا الحد صار التاريخ مناخاً حيوياً للكتابة الروائية عالمياً.
والى هذا الحد صار المُبدع مهووساً برغبة احتلال التاريخ، واقتياده الى مضارعنا بتلك الرغبة التي تكشف عن أن الكاتب يظل يحلم بحياتين وربما أكثر.
khaleilq@yahoo.com |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news