فيروز في الشارقـــة: «رميت السعادة للناس.. زهرت بإيـــدي»
غنَّت فيروز، أول من أمس، في الشارقة، وراحت عبارات «قرنفل» في مسرحية «صح النوم» توقظ عوالم الرحابنة والقرية والبئر وقصر النوم، وغيرها من مفردات الأخوين، كما لو أن عاصي لم يمض، ومنصور على مقربة من فيروز، ليأتي زياد ويقول ها هما هنا. عاصي يعود كما لو أنه استيقظ للتو، ليسمع مشاهدي عرض أول من أمس، في مسرح المدينة الجامعية، يقولون له: «صح النوم»، بعد أن عجزت المساحات الخضراء المترامية لتلك المدينة أن تمنح شعوراً بالامتلاء، على عكس المسرح الذي جمع عشاق فيروز من جميع الجنسيات العربية، وراحت اللهجات تتمازج، والكل مترقب فتح الستارة لتطل فيروز التي يسبقها أينما حلّت حشد هائل من الذكريات، فكل من كان يشاهدها كان على صراع مع نفسه، مع حياته، له أن يستعيدها وظل أغاني فيروز ومسرحياتها يرافقها كغيمة.
فتحت الستارة في تمام التاسعة مساء، ولم يكن للتصفيق الحار إلا أن يكون كرد فعل طبيعي، تصاعد أكثر لدى إدراك الحضور ولجزء من الثانية أن تلك التي تدير ظهرها وقابعة تحت مظلة هي فيروز، ولتبدأ المسرحية مع ترقب القمر، الذي ما إن يظهر، حتى يظهر الوالي (أنطوان كرباج) الذي لا يفعل شيئاً بين قمر وآخر إلا النوم، كما أن عمله لا يقتصر إلا على ختم طلبات الشعب المسكين، ومن بينهم قرنفل (فيروز) صاحبة الصوت العالي أو كما يقول لها زيدون مستشار الوالي (سيف بيجرح وبرد بيلفح)، والتي يكون سقف بيتها تهدم وتحتاج إلى تعمير واحد جديد، مستعيضة عنه بمظلة، إلا أن هذا لن يحدث ما لم تختم معاملتها من الوالي، الذي لا يتجاوز ختم ثلاثة طلبات كل شهر، وبالتالي فإن حظ قرنفل لا يسعفها في أن يختم لها معاملتها، إلى أن تتمكن من سرقة الختم عندما يقرر الوالي أن يأخذ قيلولة بعيداً عن قصر النوم الذي يحتجب فيه لشهر، فتقوم بختم طلبها وطلبات الجميع عدا «الكندرجي».
70% من مدة العرض الذي لم يتجاوز الساعة والنصف تركت للغناء الفردي والجماعي، وما تبقى للحوارات المحكية التي يتخللها بعض الموسيقى وقليل من الأداء اللحني الصوتي، ولعل ما أسلفنا ذكره من حكاية «صح النوم» هو تلخيص للإطار العام الذي جاءت عليه المسرحية المغناة، والتي لم تخل من خفة الدم الرحبانية التي يساندها أداء انطوان كرباج وصوته الجهوري العميق، وهو يدفع الحضور للتمتع بالفرح القادر على أن يجترحه وإن كان والياً ديكتاتوراً، ومن ثم النهاية التي توحي بلطافة هذا الديكتاتور، القادر على العفو، وإن كانت قرنفل قد سرقت «الختم» الذي لا يمكن للدولة والحكم والنظام أن يستمروا من دونه، والتي تتصف جميعاً بأنها من خشب مثلها مثل الختم الذي لا يغرق بل تعود قرنفل وتستعيده من البئر التي رمته فيها، ولتنتهي المسرحية بصوت فيروز يشدو «رميت السعادة للناس. . زهرت بإيدي».
جاءت المسرحية محملة بكل عناصر المسرح الرحباني وشاعريته الرعوية، وإن كان الرقص لم يحتل مساحة كبيرة من المسرحية، وعلى صعيد مواز كانت فيروز وبحركتها البسيطة على المسرح تأخذ معها أبصار وأسماع الحضور، المعدين سلفاً لاستقبال أية التفاتة أو حركة منها بحب وشغف ودهشة، ولعل الحوار بينها وبين الوالي وهو نائم خير مثال على ذلك، حيث امتزجت الذكريات بالكوميديا، إذ تقوم قرنفل بغناء ترنيمتها الشهيرة «يلا ينام الوالي» بدل ريما، إلى مقاطع مثل «الخوخ تحت المشمشة، كل ما هب الهوا، يوقع للوالي مشمشة»، ليجيب الوالي «مشتهي المشمش»، أو عندما تمر على «خيمة مجدلية» يعلق الوالي «بعمري ما عرفتها الخيمة المجدلية».
الهجائية هي للدولة وليس للحاكم، للنظام، لآليات هذا النظام الموجود لتعطيل حياة البشر بدل مساعدتهم، ولعل سرقة الختم في «صح النوم» كما كتبها الأخوان الرحباني منذ نحو 40 سنة، صالح بامتياز لما يعيشه لبنان الآن، فضياع الختم هو ضياع للحياة السياسية في لبنان، فكما يقول الوالي: «دولة بلا ختم.. دولة بلا حكم»، كما لو أن ذاك الختم هو الرئيس المؤجل انتخابه إلى أجل لم يتمكن أحد من اللبنانيين من تسميته.
وبعيداً عن غواية هذا الاسقاط، فإننا لا نستطيع تجاهل بصمة زياد الرحباني على هذا العمل، والتوزيع الموسيقي، والتعديلات التي أجراها على هذه المسرحية التي تأجل عرضها لمرتين، كانت أولاهما لدى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر عام 1970 وصولاً إلى عرضها الأخير في يوليو 2006، الذي لم يؤجل رغم كل ما أصاب لبنان حينها، ولعلنا نتذكر ما قاله زياد وقتها من أن لا شيء يؤجل عرض المسرحية إلا انزال اسرائيلي داخل المسرح، لكن يبقى لصاحب «شي فاشل» الهجائية المعروفة لمسرحيات الأخوين الرحباني، خياراته من بين مسرحيات الأخوين، والتي كما شاهدنا مثلتها «صح النوم» من بين غيرها من الأعمال، كونها خالية من مواعظ الأخوين الوطنية والقومية، أو الاسقاطات السياسية الواضحة، وكل الغناء والحوارات منسجمة وتصب في خدمة العمل دون أن تكون المساحة متروكة لأغان تخرج على الحضور فجأة دون سياق على صلة بالمسرحية مثل مسرحيات «لولو» و«ميس الريم».
يبقى أن ننوه بأن عروض «صح النوم» متواصلة في مسرح المدينة الجامعية بالشارقة حتى يوم الثلاثاء المقبل، بدعوة من «مجموعة مسارح الشارقة».
معاناة الوصول
عانى حضور مسرحية «صح النوم» من صعوبة الوصول إلى مسرح المدينة الجامعية لقلة العلامات الإرشادية التي وضعها منظمو المسرحية إلى المكان، ولولا مساعدة شرطة الشارقة لهم لما تمكن الكثيرون من الوصول في الوقت المحدد.
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news