العماء القرائي
|
|
منذ أن امتلك العربي القدرة على «فك الخط»، باعتباره حالة تحتمل الطلسمة، وتتطلب التفكيك، ظلّت القراءة تُشكل حالة قصية في وجدان المجموع العربي. حالة يصعب الامساك بها والتيقن منها، مثلما يصعب إدخالها في المسلكية الاعتيادية، كنهج حياتي للافراد. فالحبر العربي الذي ظل رسمياً وسلطانياً في الدولة الريعية العربية. ظلّ يعاني في تشكيل صورة حروفه بالنسبة للعوام والدهماء، من الظل الثقيل للسلطة، ومن تداعي آثاره عليهم في حالة تشكله.
ومن هذه القطيعة القرائية والمعرفية المُرتجفة من ثقل السلطة على الحبر، تخلّق القارئ العربي وتشكل، وحطّ في المساحة القرائية، وهو يُعاني من دهشة الكشف التي تمنحها له القراءة، ومن فرحته بكونه قارئاً. ولكي لا نقع في الالتباس وسوء الفهم نقول إن القراءة التي أطلقتها وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي، وقعت من حيث بُنية المنهاج تحت سطوة توجهات السلطة السياسية العربية، مما أدى لاحقاً إلى ما أطلق عليه ظاهرة «أُمية المتعلمين»، التي راهنت على التلقين الببغائي، والقبض على المعدل الأعلى لحماقة دفتر علامات المعلم، وقلمه الأحمر، ومربعاته التي تستعمر الروح.
على الجانب المقابل لهذا الالتباس في الحادثة القرائية العربية، وُلد القارئ العربي الآخر، الذي خرج عن طور المنهاج المدرسي، نازحاً نحو تخوم قرائية مختلفة. تلك التخوم التي لها علاقة بالأدب والفلسفة وباقي المعارف الإنسانية الأخرى. من صلب هذا القارئ المُنبت انبثقت وتخلقت القراءة العربية للأعمال الإبداعية والأدبية. وهي قراءة ما زالت تحتمل الشك والشُبهة في بُنية حدوثها وإحداثياتها. فهذا القارئ الذي وسمت تطلعاته القرائية بالنباهة، تعرض للكثير من التشوهات في تكوينه. فقد كان عليه أولا أن يغامر بحضوره القرائي في بيوت عربية، لا تعترف أساساً إلا بالكتاب المدرسي، ولا تقبل، تحت وطأة الفقر القابل للتعميم المطلق اجتماعيا، ان تخصص مصروفاً خاصاً لشراء الكتب واقتنائها.
ومن هنا يمكن المغامرة بالقول بأنه لو أتيح للكاتب العربي ان يقدم شهادة ذاتية، حول رحلته القرائية. فإنه لابد أن يقودنا الى طرق مجرّحة بالمعاناة التي عاشها في بيوت لا تؤمن بالقراءة خارج المنهاج المدرسي. وانه لو أتيح له ان يُحدثنا عن الشقاء الذي واجهه مع الأب أو الأم أو حتى مع الأخوة والأصدقاء، وهو يؤسس لمكتبته القرائية في البيت، لسمعنا العجب العجاب.
ذلك أن المكتبة المنزلية لم تدخل بعد في قائمة أثاث المنزل العربي. لكن التشوه الأقسى الذي أحدثه وجود هذا القارئ المُنبت. هو فعل الانتشاء كونه كان سباقاً إلى الاطلاع على الكنوز الإبداعية العالمية في الفكر الانساني. وعلى الأغلب فإن هذا الانتشاء قد جعله يحذف حالته القرائية ويذهب بالارتحال وبسرعة عجيبة، من موقع القارئ المتلقي، الى موقع الكاتب. إنّ هذا الانتقال التعسفي الذي مارسه القارىء العربي الذي صار كاتباً، قد جعل الساحات الثقافية العربية تتورم بالأعداد الهائلة للكتاب. ومن يقرأ الأسماء الواردة في كشف الهيئة العامة لأي اتحاد كتاب عربي، لا بد أن يصفع جبهته دهشة من عدد هؤلاء الكتّاب. إنّ العماء القرائي الذي عاشه الوطن العربي منذ عصر التنوير، قد استطاع فعلا ان يحذف الشخصية الحضارية للقارئ النبيه، ويؤسس لشخصية الكاتب الذي هو في الأصل القارئ الذي وأدناه. وتلكم هي الكارثة.
khaleilq@yahoo.com
|