ديكتاتورية البيت بوصفه وطناً


يغوي المستوى الشكلاني لبنية عرض «نساء الساكسوفون» المسرحي، للمخرج جواد الاسدي الذي عرض على خشبة مسرح بابل في بيروت،  خمس نساء وهن جاهدة وهبة، عايدة صبرا، نادين جمعة، إيفون الهاشم، والممثل رفعت طربيه بدور الجدة، يعانين عبء الجسد ومكبوتاته ـ يغوي بتوجيه عملية القراءة التأويلية نحو الحديث عن البعد الوظيفي الغريزي للجسد في مقابل سطوة الأخلاق بقيمها ومبادئها، وفي المحصلة النهائية، يتعامل المتلقي مع خمس شخصيات نسائية في أعمار مختلفة تعيش الهاجس الغريزي للجسد وتتمحور حواراتها وجدالاتها وانفعالاتها العنيفة حول كيفية التخلص من عبء الجسد، لكن غواية من هذا القبيل قد تؤدي بعملية تلقي العرض وقراءته الى تسطيح، ان لم يكن الى قمع وإلغاء، لكل المحاور الدلالية والفكرية الاخرى التي ينتجها مفهوم البيت.

 

 وانطلاقاً من ثيمة «البيت» المتحولة مكانيا (اسطبل ـ كنيسة ـ مقبرة ـ شارع) وبالتالي صيرورته المتغيرة دلالياً يحاول العرض أن يبني هيكليته التدريجية مشهدياً من خلال اختراق معادلة الثنائيات المتضادة فكرياً تارة (على سبيل المثال الأم بسوادها القامع- الأخلاق في مقابل ابنتها المشتعلة بالاحمر الهائج- التمرد) أو المتوافقة تمثيلياً (تماثل الجنس والسياسة) تارة أخرى.

 

وربما يمثل عنصر اللون الأداة الأكثر فعالية في إيحائها التعبيري في سياق هذه الحرب الانفعالية للمتضادات المتصادمة في فضاء العرض. ففي بدء العرض يحاول اللون الأسود أن يفرض دلالاته المتعددة والممتدة من هيبة الحداد والمأساة الى رهبة الموت وهيبته مروراً بقسوة رمزيته للقمع السلطوي ـ وهويحاول نفي فرحة كل الألوان الاخرى ـ على أجواء البيت وساكنيه عبر شخصية دونا برناردا ألبا.

 


 فيتم تدشين اللحظة الاولى للعرض بتنظيف الشخصيات جميعها وهي غارقة في السواد زوايا البيت كافة وكأن هناك دنسا يستوطن غرفه وممراته وتجب إزالته، فينظفون الارضية بلاطا بلاطا ويمسحون النوافذ المغلقة ويزيلون الغبار عن المقاعد المغطاة بأقمشة سوداء ويمسحون الستائر السوداء في عملية جماعية هستيرية لجعل الأسود أكثر سواداً وظلام البيت أكثر عتمةً. وهكذا يخضع المتلقي لـهيبة الأسود ورهبته، والتي تستمر خيبةُ وإحباط شخصية برناردا ألبا في بثه الى أن يتم كسر هذا الفضاء القاتم بعتمته لونياً وعلاماتياً بلطخة حمراء عبر دخول شخصية الابنة الكبرى أديلا في فستان أحمر صارخ يكشف عن أجزاء من جسدها الأبيض.

 

هنا ينشب صراع الألوان في مستواه الدلالي الحاد. الصراع بين الام، المغطاة بالأسود من أخمص قدميها الى قمة رأسها، برمزيتها لصرامة هيمنة النظام الأخلاقي وقسوة قمعه وبين أديلا، المتماوجة بين الأحمر والأبيض، التي تحاول تخريب هذا النظام وتهشيم سياقاته القيمية بالتمرد عليه، بين أن يظل «البيت» مغلقاً على سواده وايديولوجيته وأخلاقياته القاتمة وبين محاولة خدشه بلون آخر، ويكشف جزءا من ذاته على العالم الخارجي ويفتح ثقوباً في الجدران ليتسرب الخارج اليه.

 

يُمثل البيت صرامة القانون الذي يتمثل في النسق الأخلاقي الشديد الاستقامة التي تمثله السيدة برنارد ألبا المتظاهرة بالطهارة الرافضة لكل ما يمثله ما يكمن خلف باب البيت ـ الشارع والمدينة ـ من دنس وفوضى. فالخارج تعصف به الاضطرابات السياسية والحروب والانهيارات تصيب أركان المدينة، بحسب منطق وحوار السيدة «الكلاب تجر المدينة من ياقة قميصها والكلام عن المجازر والانفجارات»، وهنا ينشب مستوى آخر من الصراع داخل بنية العرض.

 

 فيحاول البيت عبر إغلاق الأبواب والنوافذ والمؤامرات التي تحوكها الخادمة وتجسسها على الابنتين والجدة ونقلها تفاصيل كل ما يحدث داخل الغرف السرية الى سيدتها، أن يصد غزو الخارج ويُجتنب تسرب قيمه إليه.

 

وبما اننا نعرف ونرى تماما ما يجري في الداخل من خراب وجحيم، فإن التساؤل حول ماهية الخارج يصبح ضرورة معرفية لاستكمال فعل القراءة.

 

عالمان
ما الذي يحدث حقا في الخارج؟ ومن الذي ينقل صورة الخارج الى ساكني البيت ومتلقي العرض معاً؟ يبدو ان السيدة هي التي تتولى وظيفة صياغة صورة المدينة (الخارج) العالم باعتباره عالما مضطربا مشوها تنعدم فيه القيم. وهي تحاول تمرير خطابها المرعب هذا على المتلقي بعد أن استطاعت الى حد ما إقناع ساكني البيت بأقوالها حين أغلقوا جميع الأبواب والنوافذ.

 

وهنا يصطدم متلقي العرض برؤية ايديولوجية ديكتاتورية للعالم الآخر الذي يقع خارج النظام الأخلاقي لدولة السيدة برناردا. 

 

يُصاب الداخل ومعه ممثلة سلطته الأحادية بهزيمة مُرة في حربها الايديولوجية مع الخارج، حيث تهجره جميع الشخصيات في نهاية العرض متوجهة نحو الفردوس المرتجى (الخارج). فالجدة التي يتعدى عمرها الثمانين سنة، ترحل بحثا عن حرية تسعد جسدها المعطل.

 

وأديلا تقرر الفرار بعد مشهد توجيه الإدانة الى الأم، حيث تصل الانفعالات الداخلية الى ذروتها العنيفة بالطرق على الابواب بشكل هستيري لا يوحي إلا بانهيار البيت، في حين تُصاب مجدولينا بالجنون وهي تظهر لتروي كيفية مقتل الأب ومن ثم تعيد تمثيل عملية اغتصابها في المقبرة.

 

 وحتى الخادمة التي تعتبر المُحركة المركزية لدرامية أحداث البيت بسبب احتلالها أوسع مساحات العرض تمثيلياً وحوارياً، تقرر نزع أدواتها التهريجية ومغادرة سيدتها لينهار البيت كلياً ويصبح خاوياً إلا من السيدة جالسة وحيدة على كرسيها.  الرغبة تمثل جوهر الصراع الدائر بين الداخل والخارج، الرغبة في إبقاء البيت موصدا على قوانينه تقابلها الرغبة العارمة في استكشاف الخارج.

 

فالعرض يحاول مَسرحة مفهوم «الرغبة»، ليست الرغبة في مفهومها الجنسي السائد المتعلق بالبعد الجسدي، بل تلك التي تنطلق من مستوى فلسفي باعتبارها تمثل محاولة تحدي ضد الثابت الراكد الذي يقمع أي خروج عليه ويصد في الوقت ذاته أي اختراق له، وهذا ما يمثله بالتحديد مفهوم البيت في هذا العرض.

 

وبناء على ذلك لا تمثل المرأة هنا مجرد علامة أيقونية موضوعتها الجنس، بل تتحول الى مساحة رمزية مفتوحة على القراءات والتأويلات. وربما اختيار ممثل ذكر (رفعت طربيه) من قبل المخرج لتمثيل دور الجــدة جاء للتأكيد على كسر هذه الأيقونية النـــسائية في هذا العرض. *تنشر بالتزامن مع صحيفة «السفير» اللبنانية 

 


ألوان
في خضم الثنائيات المتضادة المخترقة لبنية العرض، علينا أن لا نهمل قيمة التساؤل حول مكنونات اللقاء بين التشكيلي جبر علوان الشبق بألوانه، والمسرحي د. جواد الأسدي الذي ما انفك يركز اشتغاله المسرحي والكتابي على فجيعة السواد، موجهاً أدواته النقدية التحليلية بإتقان نحو محاولة فهم فلسفة «الأسود» في معناه التقليدي المرادف للموت والعدم.

 

بدءاً يستقبل جبر علوان متلقي العرض بنسائه الفاقعات بألوانهن كاشفات عن أجزاء من أجسادهن البيض وهن مرتميات في أوضاع داعرة تثير غريزة البهجة وتدعو الى تحرر الحواس من أغلالها الاجتماعية الموروثة.

 

وما ان تشبع أعين المتلقي بالألوان الصارخة كالاحمر والاصفر والأبيض، حتى يرمي به الأسدي في عــوالم انفــعالية سوداء في غاية التوتر في دعوة لقــراءة الارتطــامات الفوضوية الداكنة في بيئته (الاجـتما ـ سياسـية) الآيلة للانهيار

الأكثر مشاركة