أصبح لديّ مدونة
|
|
خُضت أول محاولة في التدوين الإلكتروني قبل نحو عامين، وكنت متردداً إزاء التأثير المحتمل لتجربة لا رائحة حبر فيها، ولا اتساخ أصابع، ولا صحيفة تحملها معك إلى البيت مساء، وتقلِّبها بشغف ورغبة، ومثل أيّ عربي خشيت من عواقب التدوين، فلديّ خوف مزمن من تبعات الكتابة، ومن استحالة تقاعد الرقيب العربي، حتى وإن كان الكلام معلّقاً في العالم الافتراضي، فالرقيب قادر على التكيّف مع عالم الإنترنت حينما يتعلق الأمر بالقمع وإسكات الرأي الآخر، وقلما يكون قادراً على التكيّف عندما تتصل الأشياء بالانفتاح والتأثير وفهم الحريات والحقوق الإنسانية.
فتحت أكثر من مدوّنة، بعضها بأسماء مستعارة، وسكبت في معظمها جلّ غضبي، ثم تركتها، ونسيت مع الأيام اسم المستخدم وكلمة العبور إلى المدونة، وزيّنت لنفسي بأن العمل في الصحافة ـ حيث الورق والحبر ـ خيرٌ من التدوين في الفراغ، وقلت أيضاً: إن الصحف لن تنقرض أبداً، وهي ليست ديناصورات محكومة بالغذاء والتطوّر، ثم إنني كأي عربي أيضاً لا يستطيع لجم اندفاعه في عالم المدونات، حيث لا رئيس تحرير، ولا قوانين صارمة للطباعة والنشر، ولا معايير ولا محاذير، وحينها سأعطي الكتابة صفة الريح، وأطلقها في كل المسافات المحرّمة عربياً، ولن يطول الأمر كثيراً، فالسلطات العربية متطورة جداً في ملاحقة الاختلاف! لكنّ ما تزيّنه لنفسك ليس دائماً هو الحقيقة، وغالباً لا يستطيع الصمود أمام حركة الحياة واندفاعاتها نحو الضوء والاكتشاف.
فعالم التدوين والمدوّنات «البلوغز» بات يشكّل سلطة معرفية، واسعة النفوذ والتأثير، والمدوّنون غيّروا جذرياً منذ عام 1997 تاريخ التلقي، وفرضوا، بقوة النشر الجديدة، حضورهم في التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي في أوروبا وأميركا، ولم يعد العالم العربي، بكل سلطاته وقوانينه، بمنأى عن هذه الرياح!
طبعاً لا مجال للمقارنة بين استقبال العالم الحرّ والحديث للتدوين، ومقاومة العرب له، فنحن كنا طليعيين وروّاداً في حبس المدونين، وملاحقتهم قانونياً، وجرى تحديث (انظروا الخطأ الموضوعي في المفردة) قوانين النشر في العالم العربي؛ لكي يفهم كل مدوّن، وكل مدوّنة، أن العرب قادرون على ضبط الفضاء، والتحكم به، ومعاقبة المتحمسين للحداثة في الفضاء، مثلما هي الحال على الأرض.
ووراء ذلك مجتمع أبويّ يقيم، بتلذذ، في ماضٍ سحيق، ويطالب السلطات العربية بحماية الشباب من التأثيرات السلبية للمدوّنات، وهو غاضب جداً لأنها منفلتة من أي رقابة!
بين هذه المخاوف، واليقين بأن من لا يبدأ يظل متأخراً أو متخلفاً دائماً، قررتُ أن تكون لي مدونتي، وباسمي الصريح، أدرجت عليها صورتي، وكذلك هذا المقال، مقتنعاً بأن لا مأمن من الكتابة الحرة، سواء في صحيفة أو مدوّنة، ومتأكداً أن العتمة مهما اشتد سوادها يبدّدها شعاع صغير هرب من نيزك، وأن البقاء خارج هذا العالم الجديد: الحيوي والمتفاعل والمفتوح والذكي يعني أنني أسير فعلاً في طريق العزلة التي هي أيضاً شكل آخر للانقراض! وهكذا أصبح لديّ مدونة، سأعيش فيها بصفتها أرضاً خاصة، لم يطأها أيّ ديناصور
|