«ألــوان» مـن بـطـولــة كـائـنــات جـبـر علــوان


لا يبدو اللون مهادناً، ولا نخرج من فضاء اللوحة إلاّ إلى آخر أشد رحابة، كما أن الألوان تتزاحم على سطح الشاشة، فمنذ بداية فيلم المخرج العراقي قيس الزبيدي «ألوان» تتداخل اللوحات - هناك عدد هائل منها قادم لا محالة - تتبادر إلى الذهن هذه الجملة المعترضة بينما الفيلم يمضي ملاحقاً الألوان، وليخرج من اللوحات إلى مرسم جبر علوان، الذي بالتأكيد لا مكان فيه لجدران عارية، بل مكسوة أيضاً باللوحات.

 

المقدمة تلك هي من بداية فيلم الزبيدي عن الرسام العراقي جبر علوان، والذي فرغ منه منذ شهرين، وجاء عنوانه تكثيفاً دقيقاً لما له بامتياز أن يوثّق ألوان علوان، وأن يقارب حياته من دون أن تكون إلاّ ملونة، لا تفارق اللوحة، أو كما يرد على لسان علوان نفسه «أينما أسافر لا آخذ معي إلا حقيبة ألواني».

 

يمضي فيلم «ألوان» من مرسمه في روما وحياته التي يضيئها الفيلم بتكثيف بصري، إلى الذاكرة والحنين وحضورهما في لوحاته من دون أن تكون أدوات الزبيدي في رصده ذلك إلا لوحات علوان، وصور قديمة له في العراق، وأخرى ملتقطة بالأبيض والأسود لبغداد، والتي أيضاً لا يدعها الزبيدي تمر لخدمة الحنين فقط، بل يتتبّعها في اللوحات، وإيجاد المفردات التشكيلية التي يستعيد بواسطتها علوان تلك الحياة، ولعل هذه الآلية تمتد لتكون المعبر السينمائي للفيلم إلى لوحات علوان، وعلى شيء من ما يمكن أن نسمّيه دراما تشكيلية، نعبر فيها حياة علوان جنبًا إلى جنب مع أعماله، من دون أن يكون الكلام والذي يأتي على لسانه إلا في نطاق ما قلّ ودل. شيء مثل أنه قد يرسم لوحة مشابهة للتي رسمها في اليوم الماضي، لكنها جديدة، أو حديثه عن الفضاء في لوحاته، ومن ثم مادة «الاكريليك» التي يرسم بها علوان، وعلاقته مع دمشق التي تعيده إلى الشرق وتجعله  قريباً من العراق، حيث يتحدث عن قوة الضوء ومسقطه، وعن اختلاف اللون الأحمر في دمشق عنه في أوروبا، وفي لقطة جميلة عند المغيب في دمشق يقول علوان «الأذان، السيارات، وغيرها من أصوات، خايفة من الضو إنو يروح». أمام هذا التقشف الكلامي، يترك الأمر للصورة أن تقول كل شيء، وبين ثلاث مدن تتحرك الكاميرا، لنكون بين عالمين موزع بينهما علوان، روما التي يعيش فيها، والذاكرة المسكونة بالعراق الذي صارت تفصله عنها أكثر من 30 سنة، ومن ثم دمشق التي يحتفي بها الزبيدي بمشهدية خاصة، دون أن يفارق أحياءها القديمة.

 

عندما يقترب الزبيدي من المعاناة العراقية التي هي معاناته أولاً ومعه علوان، فإنه يستعين بمبدع عراقي منفي آخر هو جواد الأسدي، ومسرحيته «حمام بغدادي» التي يوظفها الزبيدي لتكثيف تلك المعاناة عبر الأداء المعبر والرائع لفايز قزق ونضال السيجري، على اعتبار تلك المعاناة أولاً وأخيراً ذات منشأ قمعي واستبدادي، وليدعم المشهد المأخوذ من «حمام بغدادي»، بلوحات علوان حيث أيادٍ مقيدة، وشخصيات معذبة تطفو من تلك اللوحات، وصولاً إلى قيلولة علوان في بيته الدمشقي بينما تتمازج معه اللوحات التي لها أن تكون أحلامه وكوابيسه، وليكون الفرح كما يؤكد حاضراً دائماً، ولعل الإبداع حسب علوان هو الخروج بالفرح من كم هائل من الحزن.

 

يصلح فيلم الزبيدي أن يكون أيضاً مقاربة منه لعوالم المنفيين العراقيين، وبكلمة أدق المقاربة الأولى له، بعد أن كرّس مجمل أفلامه الوثائقية للقضية الفلسطينية، بينما مضت تجربته الروائية في منحى تجريبي. من الضروري إيراد ذلك كون الزبيدي نفسه منفياً من العراق يعيش متنقلاً بين برلين ودمشق، مثله مثل علوان الذي يعيش بين روما ودمشق، كذلك يمتد الأمر ليشمل المخرج العراقي جواد الأسدي الذي يلقي عليه الزبيدي مهمة إيضاح الأسباب الكامنة وراء حياة المنفى من خلال اقتباسه ذلك المشهد من مسرحيته، والشاعر العراقي سعدي يوسف ونحن نشاهده في الفيلم بمعرض لعلوان في دمشق.

 

إن كان هذا الفيلم هو أولى مقاربات الزبيدي للعراق فإنه التشكيل لم يفارق أفلامه، فيكفي أن أذكر أفلام مثل «الكابوس»، و«زائد ألوان»، و«شهادة الأطفال الفلسطينيين» وكذلك الأمر في «الزيارة» لإيضاح قرب الزبيدي من التشكيل واللوحة، ليكون في «ألوان» على شيء من الرهان على بناء فيلم لوني، وعلى ما يمكن اعتباره إبحاراً سينمائياً في نساء علوان، وراقصاته، وآلاته الموسيقية، وغيرها من العناصر التي تحملها لوحته، كما لو أن الكاميرا تقطفها في لحظات منفلتة من كل شيء إلا الإبداع، ولتأتي الموسيقى المرافقة فيمسي التناغم على أشده، فنحن لا نلتقط أنفاسنا من الألوان إلاّ عندما يشعل علوان سيجاره، لازمة الفيلم، وبالتأكيد المتكررة كون علوان لا يتوقف عن التدخين.

 

سيجار، لقطة ثابتة، وتعود الألوان إلى تدفقها. سيجار، لقطة ثابتة، ونمضي إلى منفى وتواريخ وأمكنة، تتكثف جميعها في الصورة فقط، في احتفالية باللقطات التي تقول وتوثّق وتحتفي.  

تويتر