حتى لوركا.. واأسفاه!

يوسف ضمرة

 

من حق مؤرخي الفن والأدب في الغرب أن ينقبوا في الطبقات المجهولة من حياة الكتاب والأدباء والفنانين، سعياً لكشف الحقائق، وتعبئة الفراغات الناقصة.

 

ولكن، ليس من حق أحد أن يسلب البشرية حقاً اكتسبته لا بمرور الزمن فحسب، بل بما حمل من قوة تراجيدية، ولمسة شاعرية، جعلت منه ملاذاً للبشرية في ساعات القسوة والحقد والكراهية والظلم.

 

حدث هذا مع الفنان فان كوخ، وكتبنا عنه في هذه الزاوية، حين أرادت مؤرخة أن تنفي الواقعة الشهيرة التي تتحدث عن قطع الفنان أذنه، وإهدائها إلى حبيبته، مؤكدة أن الفنان بول غوغان، هو الذي قطع أذن صديقه في إحدى المشاحنات الخمرية.

 

وقد حدث من قبل مع الشاعر بابلو نيرودا، حيث حاولت مصادر غربية الإشارة إلى أن موته كان إثر نوبة قلبية، لا قتلاً على يد دكتاتورية (بينوشيه).

 

ثم قيل عن غيفارا ما قيل، من ساديته ودمويته.

والآن يأتينا مخرج إسباني يدعى إيمليو بفيلم وثائقي، يزعم أن لوركا قتل على خلفية نزاعات عائلية تتعلق بالأرض وبعض الممتلكات، إضافة إلى الإساءة إلى العائلة، الناجمة عن مسرحية (بيت برناردا إلبا).

 

وأول ما يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل قمنا بتصحيح أخطاء التاريخ كلها ولم يبق لدينا سوى لوركا ونيرودا وفان كوخ وغيفارا مثلاً؟

 

وهل التاريخ الإنساني نقي وصاف الآن، لا تشوبه شائبة سوى ما يتعلق بمصائر بعض الفنانين والكتاب والأدباء والشعراء؟

 

وهل اختيار هؤلاء تحديداً دون سواهم، جاء مصادفة حقاً؟ خصوصاً ونحن نعلم ما كتبوه، وما قاموا به في خلال حيواتهم؟

 

التاريخ ليس نقياً وصافياً كما قد يزعم البعض. وإذا أردنا إعادة كتابة التاريخ، لوجدنا آلاف الوقائع المزوّرة والأكاذيب. وقد حاول بعض المؤرخين في الغرب التطرق إلى حقيقة «الهولوكوست» فقامت الدنيا ولم تقعد.

 

والآن، يريد مخرج سينمائي أن يقنعنا بأن الفاشية الإسبانية ليست هي المسؤولة عن مقتل الشاعر لوركا، بل هي مجرد نزاعات عائلية على بعض الممتلكات الزراعية والأراضي.

تصوروا معي لوركا القائل: وا أسفاه، لم يعد هنالك غجر يصعدون الجبل.  يتورط في نزاعات حول ملكية أراضٍ وممتلكات!

 

وفي الأحوال كلها، وحتى لو كان هذا الكلام صحيحاً، وحتى لو كان ما قيل في فان كوخ ونيرودا وغيفارا صحيحاً، فإننا نود أن نشير، إلى أن الكذبة التاريخية الحاملة للقيم الإنسانية النبيلة، كالحرية والعدالة والحق والجمال، خير من الحقيقة المجردة التي تعمل على تقزيم التاريخ الإنساني، من خلال سحب هذه الوقائع «القصائد العالية» من وجدان البشرية الذي اقتات منها عقوداً وقروناً كثيرة، وتمكن بفضل قوتها التأثيرية من تحقيق ما حققه الإنسان على هذه الأرض من تطور فني وثقافي وفكري شامل. فارفعوا أيديكم عن هذه الأيقونات اللامعة في التاريخ البشري!

 

 

 

damra1953@yahoo.com
تويتر