«الحياة معجزة».. والزمن يمر مترنّحاً


يمكن ارتداء قفّازات ملاكمة عند الحب، وتحويل السرير إلى بساط طائر. يمكن أيضاً أن يكون محافظ مدينة مهووّساً بالاتصال بقنوات إباحية، ومتابعة مباراة كرة قدم في ملعب يغمره الضباب، كما يمكن لحمار أن ينقذ إنساناً قرر  الانتحار في لحظة يأس.

 

يمكن مواصلة ما تقدم إلى ما لا نهاية حين يتعلق الأمر بالمخرج البوسني أمير كوستاريكا، ولعل ما تقدم غيض من فيض ولا يتجاوز فيلماً واحداً عنوانه «الحياة معجزة» إنتاج عام 2004، ذلك أن استعادة عوالم كوستاريكا وعلى شيء من التداعي الحر للذاكرة سيكون أمراً لا نهاية له من الغرابة والفرادة، مع استرجاع «زمن الغجر»، أو «قط أسود، قط أبيض»، أو «عالم سفلي»، وغيرها من أفلام لها أن تشكل مملكة كوستاريكا السينمائية، أو مدينته الفاضلة التي يقيمها الآن في سيبيريا. قبل الحديث عن «الحياة معجزة»، عليّ هنا التأكيد أن هذا الفيلم ليس آخر أفلام كوستاريكا، بل قبل الأخير على اعتبار أن «عدني بذلك» كان آخر ما أخرجه، هذا إذا استثنينا فيلمه «مارادونا» على اعتباره فيلماً وثائقياً عن هذا اللاعب الأسطورة سيعرض في الدورة الحادية والستين من مهرجان «كان» التي تبدأ الأربعاء المقبل.

 

أعود إلى «الحياة معجزة» لتكون كذلك بحق، وأكثر جنوناً وخصوصية بشخوص كوستاريكا الذين يعيشون على هامش الزمن، وليكون هذا الزمن إن تمكن وراح يمر فإنه سيكون مترنحاً حتى الثمالة، من دون أن يقع، يوقفون الزمن متى رغبوا وغالباً ما يفعلون.

 

«الحياة معجزة» يحكي عن مهندس سكك حديدية يعيش على جانب سكة الحديد، ولنتعرف إلى كل سكان تلك القرية التي تستخدم السكة الحديدية على طريقتها الخاصة، فالكل يستعمل سيارات معدلة لتمشي على السكة، مثل أن تكون من دون عجلات، ويترك للأسطوانات التي تركز عليها العجلات مهمة السير على السكة، هذا التفصيل واحد من بين تفاصيل كثيرة تحيط بعالم مهندس السكك، والذي من خلاله يروي كوستاريكا حكايته الرئيسة، والتي لا يصلها إلا ويكون قد أدهشنا وأمطرنا بوابل من اللقطات الطريفة والفريدة، والتي تنطلق مع بداية الفيلم: صرخة، ومن ثم موسيقى فيها الكثير - كعادة كوستاريكا - من الآلات النفخية، ولنبدأ مع ساعي البريد الذي نراه حاملاً الرسائل متنقلاً على سكة القطار، بعربته العجيبة، ومن ثم الحمار الذي يقطع عليه الطريق، وصولاً إلى تسليمه رسالة إلى بيت يفتح أو عفواً يخلع له بابه دب بدل الشخص الذي من المفترض أن يتسلم رسالته منه، وليجده ميتاً ومعلقاً فوق شجرة، وصولاً إلى عائلة المهندس، والزوجة الهستيرية، والابن المدمن على لعب كرة القدم. في ما تقدم سرد سريع لفاتحة فيلم كوستاريكا، الذي يسلط الضوء في النهاية على الحرب البوسنية عبر قصة حب تنشأ بين المهندس الصربي وامرأة بوسنية بعد أن تهجره زوجته الهستيرية، ولكم أن تجدوا من الروعة في تصوير تلك العلاقة التي تندلع فجأة لدرجة تصل بهما إلى الطيران بالسرير الذي يجمعهما، ونسيانهما الحرب وكل ما يحيط بهما من جنون.


ثمة حقيقة أكيدة ستطالع كل من شاهد هكذا فيلم، ألا وهي أنه لا ينسى جملة وتفصيلاً، بمعنى يمكن استعادة المشاهد منفصلة، ويمكن استعادة الفيلم كاملاً ودائماً وفي كلا الحالتين تكون المشاهد راسخة، مثل الممرضة التي ترمق المهندس بإعجاب وكيف تكتشف فأراً في المستشفى يدفعها للصراخ، ومن ثم الوقوع في عربة نقل المرضى ذات العجلات التي تمضي بها وترتطم بالمهندس فيتمدد إلى جانبها، فيمضيان سوية في فرح غامر، هذا مثال من بين أمثلة كثيرة على إصرار كوستاريكا أن يصور لحظات منفلتة من الزمن.

 
يبقى أن نذكر هنا أن لقطة مدتها ثانيتان لخص من خلالها كوستاريكا ما حدث لسراييفو، تتمثل بانقضاض قطة على حمامة وتمزيقها، اللقطة نفسها التي سألت الرقابة البريطانية حذفها عند عرض الفيلم في بريطانيا، معتبرين أنها لقطة مؤذية ووحشية، ولها أن تؤذي مشاعر المشاهد الإنجليزي، الأمر الذي رفضه تماماً صاحب زمن الغجر، قائلاً: «الأمر مدعاة للاستغراب، لا أستطيع فهم أن الحضارة الإنجليزية العظيمة قد تقوّضها قطة من أوروبا الشرقية»، وأضاف في حينها بعد رفضه القاطع حذف اللقطة «الإنجليز يثيرون استغرابي، فبعد قتلهم ملايين الآسيويين والأفارقة، فإنهم يهتمون لمقتل حمامة كانت ميتة في الأصل قبل تصويري تلك اللقطة».

 

الأكثر مشاركة