سجن «كان».. البحر أمامه والجبال خلفه

 

 يمكن لكلمة «سجن» أن تشكل مفتاحاً لعروض أول من أمس، في الدورة 61 لمهرجان كان السينمائي، الكلمة النقيض لكل أجواء المدينة، وقصر السينما الذي يشهد عروض المسابقة الرسمية ومسابقة «نظرة ما»، كونه ما زال كما هو وقد تجاوز 60 سنة: البحر من أمامه والجبال من خلفه، وعلى تناغم تام مع ربيع يطغى على كل شيء في «كان».

السجن، وأنا أسمع رئيس لجنة التحكيم هذه الدورة شون بين يقول: القليل عمّا سيتبعه في حكمه هو ولجنته بالنسبة للفيلم الذي سيتوج بسعفة كان الذهبية، «أريد أن يكون مخرج الفيلم واعياً للزمن الذي يعيش فيه»، ويضيف «يجب أن نسمع روح الفيلم، يجب أن نرى روح الفيلم»، هكذا عبارات ما يوجز به بين الخط العام للفيلم الذي سيتوج بالسعفة الذهبية، ويمكن لمن يعرفه أن يأخذ عبارته الأولى إلى ما يمثله من روح تمردية، ويمكن القول أيضاً إنه «زمن بوش» ما دام بين من يقول ذلك هو المعروف بمواقفه الحادة ضد الإدارة الأميركية الحالية.

في ما تقدم اشتهادات على ما صرح به «بين»، لكنه وكبداية خرق حظر التدخين في المهرجان، مع مساندة من المخرجة الإيرانية مرجان سترابي وجيني بالبير عضوتا لجنة التحكيم، لا بل أصبحت السيجارة بعد المؤتمر الصحافي للجنة التحكيم لا تفارق يده.

 تبرئة إسرائيلية
لفت الأنظار كثيرا في اليوم الأول من مهرجان كان، الفيلم الاسرائيلي «والز ويز بشير»، ولعل مخرجه آري فولمان واعٍ تماماً لزمانه، ما دام الحديث هنا عن فيلم وثائقي و«انيماشن» في الوقت ذاته، حيث التوثيق يتم من خلال «الانيماشن»، كون الذاكرة مفقودة، وما من وثائق في يد المخرج عن مجزرة صبرا وشاتيلا، سواء من الطرف العربي أو الاسرائيلي كما يقدم لفيلمه، وإن كان الفيلم في النهاية هجائية كبيرة للحرب بكل أنواعها، فإنه تبرئة كاملة لجيش الإحتلال الإسرائيلي من المجزرة أو كما يقول فولمان الذي يستعيد في الفيلم ذكرياته الخاصة في حرب لبنان كونه خدم جنديا في اجتياح عام 1982 «الشيء الوحيد الواثق منه أن المسؤولية الكاملة تقع على عاتق عناصر الميليشيات المسيحية اللبنانية، ولم يكن بمقدور الجنود الاسرائيليين القيام بأي شيء»، هذا ما يرد على لسان فولمان في الكتيب التعريفي بالفيلم.  بشير هذا الفيلم هو بشير الجميل، والذي تظهر عملية اغتياله السبب الرئيس لمجزرة صبرا وشاتيلا و300 شهيد الذين قضو بعد يومين لم يتوقف فيها الرصاص. الفيلم خاص جدا، مصنوع بعناية وحنكة، وله أن يقدم فظاعة جنون تلك المجزرة، والهلع الذي استعان بكل تقنيات «الانيماشن» ليكون على قدر كبير من الإدهاش والتوثيق كما يراه فولمان.

أمهات سجينات
أعود إلى السجن الذي بدأت به، ونوصد أبوابه كما في الفيلم الارجنتيني «ليونيرا» إخراج بابلو ترابيروا المشارك في المسابقة الرسمية، نوصدها على أم وابنها، حيث يمضي ترابيروا خلف عالم كامل من السجينات الأمهات، وبعبارة أخرى الابناء الذين يفقدون حريتهم في الطفولة لئلا يحرمون حنان الأمومة.

يروي ترابيروا أن فكرة الفيلم انطلقت من أرضية واقعية بحتة، فبينما كان في طريقه بسيارته برفقة ابنه، مر بجانب سجن «ليونيرا» فإذا بابنه الذي لم يتجاوز الأربع سنوات يصرخ «انظر بابا.. إنه وردي»، ويضيف ترابيروا «أن الكتل الاسمنتية كانت دون لون ومخيفة، لكن أحد مباني السجن كان ملوناً، وبعد ذلك تعرفت على عالم تلك السجينات الأمهات وأولادهن، والقوانين التي لها مثيل في كل أنحاء العالم، ولكن مع اختلاف سن بقاء الابن مع امه، والذي يمتد لأربع سنوات في الأرجنتين». يأتي كل ما تقدم في قالب درامي محكم، مع كاميرا أصر ترابيروا جعلها قريبة وموجعة في مشهديتها، ولعل دور جوليا الأم  الذي قدمته مارتينا غوسمان له من التميز الكثير، في الفيلم يتمحور حولها وعذاباتها بعد اقدامها على قتل عشيقها، واكتشافها في السجن أنها حامل. عالم كامل يقتطعه من سجن في بوينس أريس ويضعنا كما يقول بتصريح سريع «أتمنى أن يصعّد الفيلم من الجدل العالمي حول أمومة السجينات».
الفيلم الايرلندي «جوع» لستيفن ماكوين المشارك في مسابقة «نظرة ما»، مدعاة للتوقف طويلاً أمام عذابات سجن حالك الظلمة، وصراع ايرلندي مرير ضد الحرية عبر استعادة بوبي ساندس شهيد ايرلندا الكبير، الذي سبق لأربعة أفلام أن اقتربت من عالمه.

فيلم ماكوين كما قال لي شيموس بيرتن وهو صحافي ايرلندي لدى معرفته أنني من العالم العربي، «يجب أن يكون لديكم مثله عن فلسطين»، وافقته بشدة، وربما ما يقوله ساندس في حواره مع الكاهن الذي يحاول منعه من الاضراب عن الطعام ما يؤكد على ذلك إذ يقول ساندس «الحرية هي كل شيء بالنسبة لي.. أن أهب حياتي ليس بالشيء الوحيد الذي بمقدوري، إنه الشيء الصحيح».

طبعاً الجوع الذي يأتي في نهاية الفيلم، يسبقه: الظلم، الوحشية، القسوة، العنف، الحيوانية، وكل تلك المصطلحات التي تلتصق بممارسات الانجليز ضد الجيش الايرلندي الجمهوري، مع مرافقة ذلك بمقاطع من خطابات لرئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر.

 في الفيلم لقطات لا تنسى، لا بل إنه من أوله لآخره لا ينسى بحجم الدم الذي يهرق فيه، ولنا في اغتيال المحقق الانجليزي في حضن أمه التي تكون صامتة وغارقة في عالم آخر مثال سريع من بين مئات الأمثلة، إذ يأتي رجل من خلفه ويطلق الرصاص على رأسه فيقع في حضنها مضرجا لها بدمائه، ولتبقى هي على حالها صامتة وغارقة في عالم آخر.

عاصمة الغرائبية
وضمن عروض «نظرة ما» أيضا يأتي فيلم «طوكيو» لثلاثة مخرجين هم ميشيل كوندري، ليو كاراكس وبونغ جون هو، وانتاج فرنسي، ياباني، كوري، ألماني، ولنلاحظ أن طوكيو هي عاصمة الغرائبية، كون الأفلام الثلاثة أجمعت على ذلك، وأطلقت للخيال عنانه على ما يتفق مع المدينة ذاتها، حيث الأول الذي حمل عنوان «ديكـور» يمضي خلف نمـط العيـش في تلك المدينة عبر شاب وشابة يأتيان إليها للعمل والاستقرار بها، حيث البيوت لا تتجاوز حجم علبة الكبريت وتحتوي على كل شيء، الشاب يحلم أن يصير مخرجاً، بينما صديقته الضائعة تتحول إلى كرسي في النهاية، هذه الغرابة تمتد إلى الفيلم الثاني «هلع طوكيو» حيث يخرج رجل غريب الأطور من مجارير طوكيو ويتسبب بالهلع، إلى أن يقتل العشرات من الناس، دون سبب إلا أن يكره اليابانيين، وهنا تمتزج فكاهة هذا الكائن الذي يتكلم لغة لا يفهمها في العالم إلى محام فرنسي، وغير ذلك من الكوميديا والغرابة.

 مع الفيلم الثالث «طوكيو المرتجفة» تستكمل الغرابة مع رجل لا يخرج من بيته أبدا، وكيف ينام في الحمام، ولا يرمي بشي، فتتكدس علب البيتزا لأنه يطلبها كل يوم جمعة، وغير ذلك إلى أن يقع في حب فتاة التوصيل التي يغمى عليه من جراء هزة أرضية، فنكتشف أنها فتاة آلية.

ما تقدم يخرجنا من السجن، ليعيدنا إليه الفيلم التركي المشارك في المسابقة الرسمية «ثلاثة قرود» للمخرج نوري  سيلان، والذي يثبت من خلاله على قدرته على بناء متعة بصرية خاصة، من قصة بسيطة لها أن تلخص بقضية الخيانة الزوجية، حيث الزوج يقبل أن يدخل السجن بدل أحد السياسين الذين يدهسون أحد المارة في الليل، وأثناء غيابه تنشأ علاقة بين زوجته وذاك السياسي، ويكتشفها ابنه، دون أن يخبر والده. وحين يخرج الوالد يكتشف ذلك بنفسه.

قد يظن المشاهد أن الأمر سيكون قضية شرف، إلا أن ما يطمح إليه سيلان يكمن في أن يضع شخصياته في أزمات متواصلة، وأن يدخل أعماقها، قبل أفعالها، ويضيء ما يمكن أن تكون عليه في موقف، أو كما صرح سيلان «حاولت أن أحول الافكار المجردة والمعتقدات إلى دراما». 
 
نجوم وشركات  
 قال الناقد السينمائي غريغ كيلدري «ان تشكيلة الحضور في هذه الدورة من المهرجان لن تخيب الآمال. أضاف «اكبر النجوم سيحضرون هذا العام، اضافة الى نجوم الصف الثاني الى جانب عدد كبير من المخرجين وشركات الانتاج، وأكد كيلدري أن  النسخة 61 من سباق الافلام الذي يستمر 12 يوماً بأنها مشحونة بالفعاليات بنهكة اميركية جنوبية قوية حيث سيتم عرض فيلمين ارجنتينيين وآخرين برازيليين في المسابقة الرئيسة. ومن المقرر ان تقدم نجمة البوب العالمية مادونا ونجم هوليوود روبرت دي نيرو جائزة السعفة الذهبية في حفل الختام في 25 مايو  الجاري.

تويتر