«بدّي شوف» بعيني دينوف و«24 مدينـة» على أنقاض الصـــين

 
المعاناة المتواصلة لبلد تحوّل إلى ردم تحت الشاطىء. التغيرات الكبيرة التي طرأت على نظام سياسي وانعكاسه على شعبه. البحث عن مجاز لبلد بأكمله، مضافاً إلى ذلك علاقة الأميركي مع بلد آخر، كل ذلك وأكثر بكثير قدمته أول من أمس عروض الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية ومسابقة «نظرة ما» في الدورة الـ66 من مهرجان كان السينمائي.

قبل الشروع بالاقتراب من تلك الأفلام، فإن إصرار السماء كان بادياً على مرافقة العروض والاحتفال السينمائي في كان، بمطر خفيف ليس له أن يتوقف مادامت الجموع على ما هي عليه، أمام صالات العرض والمسارح، لا تبالي بالمطر بقدر ترقّبها الدخول إلى صالات العرض. أبدأ من الفيلم اللبناني «بدي شوف» للمخرجين جوانا حجي توما وخليل جريج، الذي عرض ضمن مسابقة «نظرة ما» وجاء كتعقيب سينمائي، ورصد بأعين النجمة الفرنسية الشهيرة كاترين دينوف لحرب تموز الأخيرة.

صعدت دينوف إلى خشبة المسرح قبل العرض إلى جانب المخرجين، لوحت بيدها وابتسامتها ووجهها المعبر على ما هو عليه رغم تقدمها في العمر. كان الأمر موجزاً وسريعاً، ولتظهر مجدداً، لكن هذه المرة على شاشة العرض، ولنكون بصدد فيلم يقول الأشياء بإيجاز وتقشف، عبر محور رئيس لا ثاني له، يتمثل ومنذ البداية برغبة دينوف أن ترى ما الذي حل بلبنان بعد الاعتداء الاسرائيلي عليه، غير مبالية لا باحتياطات أمنية ولا غير ذلك، ولتمضي في رحلتها إلى الضاحية الجنوبية، ومن ثم جنوب لبنان، برفقة شاب لبناني، أو الممثل ربيع مروة مادمنا نرى أن الاتفاق بين المخرجين يجري أمامنا على كيفية الحركة، وكيف ستكون الكاميرا.

الكلام بين ربيع ودينوف قليل في البداية، ويتزايد مع مرور الزمن، كونهما قيد التعارف، وربيع يعتذر على فرنسيته، لكن ما نتابعه طيلة فيلم يمضي بنا إلى ما أقدمت عليه الطائرات الاسرائيلية دون الكثير من الكلام، ولا وضع الفظاعات بحرفيتها، بل نتأكد منذ البداية أن دينوف متأخرة، بمعنى أن عملية إعادة إعمار المهدّم قد بدأت.

فيلم توما وجريج يروي كل ما حدث دون أن يسميه بحرفية فظة، لا يقول إن الطائرات الاسرائيلية هي التي ارتكبت هذا الدمار، لكنه يصور كمية الفزع التي تظهر على وجه دينوف لدى مرور طائرة اسرائيلية اخترقت جدار الصوت من فوقها، ليقول لها ربيع هذه طائرة اسرائيلية مهمتها بعث الخوف والتصوير، وكذلك الأمر حين يشرد ربيع وهو يردد لدونوف مقطعاً كاملاً من أحد أفلامها ويقود السيارة إلى طريق غير معبد، وقطع التصوير ولحاق طاقم عمل الفيلم به لإيقاف السيارة، خوفاً من وجود قنابل عنقودية.
 
أمر آخر يحسب لهذا الفيلم، ألا وهو اعتماده زاويتي رؤية، مراقب خارجي ليس له أن يكون في خضم الأزمة أي دينوف، وربيع الذي يجد بيت جده في الجنوب مهدماً، ويتردد بصوته منولوج جميل عندما نشاهد الردم الذي ينزع منه الحديد ويرمى في البحر.

تحوّلات صينية 
من فيلم «بدي شوف» نمضي إلى فيلم الصيني جيا زانكي «24 مدينة» ضمن عروض المسابقة الرسمية، والذي له أن يشكل وثيقة تاريخية مهمة عن الصين والتحولات التي شهدتها، ولعل الفيلم كان مرتقباً بقوة، ويقال إن مهرجان «كان» كان مستعداً لاستقبال عرضه حتى وإن قدمه زانكي قبل ربع ساعة من موعده.

هذا الاهتمام يأتي من أهمية المخرج أولاً، ومن استثنائية ما يقدمه، سواء على صعيد توثيقي أو جمالي.
فالفيلم يحكي تماماً ما الذي حلّ بالطبقة العاملة في الصين عبر سرد قصة حياة معمل، نعم معمل كونه يقدم شهادات عمال وأجيال كاملة عاشت وأحبت وتزوجت وأنجبت في كنفه والمدينة المحيطة به.
تتواصل الشهادة في تنويعات مشهدية تتناغم وتنويعات قصص أولئك العمال والعاملات، والتي تجنح إلى حياتهم العادية والتي لا تنفصل عن المعمل، إلى أن يصل بنا إلى لحظة يدعنا نشاهد فيها كيف يجري هدم ذلك المعمل لإقامة مشروع 24 مدينة على أنقاضه، المشهد الذي يترافق مع النشيد الأممي، وليقول لنا مضت تلك المرحلة، الصين لا علاقة لها بالشيوعية الآن، وليؤكد لنا ذلك من خلال شهادة ابنة عاملين في ذاك المصنع والمصير المفجع الذي طالهما بعد هدم المعمل، ونمط عيش  تلك الابنة.
فيلم «24 مدينة» له أن يقول وبفنية عالية، وتقطيع الشهادات وفق مقاطع شعرية، إن ظلم الطبقة العاملة في الصين جاء على يد دولة العمال والفلاحين، بما يشبه ممارسات الشركات الرأسمالية، وإن كان لنا أن نقوّل الفيلم أكثر فإنه هجائية لما يعرف بـ «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وأن اعتبار الصين دولة شيوعية كذبة كبيرة.

رسالة قاسية
 نبقى في آسيا ومع فيلم فلبيني مشارك في المسابقة الرسمية، يحمل عنوان «خدمة» أو «سربيز» عنوانه الأصلي المحوّر لكلمة «سيرفز» وفق اللكنة الفلبينية، ليأتي هذا الفيلم قوياً وصادماً، له أن يبني مجازاً كاملاً عن مجتمع يتصدى مخرجه برلنتي مندوزا لرصده والبناء عليه. تجري أحداث الفيلم في دار عرض لأفلام إباحية، وضمن هذه الدار تعيش عائلة، تمتد من أم هجرها زوجها، وإلى جانبها أولادها، وأولاد أولادها، مع مجموعة من الفتية والفتيات يعملون في تلك الدار، وكل له عالمه وقصته، لكن الجميع منغمس في القذارة، قذارة المكان كونه متسخاً ومتداعياً، وإلى جانب قذارة العلاقات وبدائيتها، وجنوحها نحو التدمير الاجتماعي الكامل، فرسام ملصقات الأفلام الشاب، تحبل منه فتاة، فيترك السينما، وغير ذلك من مجموعة من العلاقات المتشابكة.

الجنس في الفيلم حاضر بقوة، لكن دون مجانية، كونه المنبع الرئيس لكل أحداث الفيلم، والضجيج لا يفارق الفيلم طوال زمن عرضه، ليوضع الضجيج والقذارة والجنس البدائي، إضافة للواط، حيث تكون صالة العرض مكان للقاء المثليين، وغير ذلك من ما يسمى «سيربز»، ولينتهي الفيلم وقد أوصل مندوزا رسالة قاسية ضد مجتمعه، لنا أن نجدها في العنزة التي تدخل إلى دار العرض، في اصرار على تصوير حمامات السينما القذرة والبالوعة، والحيطان المليئة بالكتابات البذيئة وما إلى هنالك مما يجعل من دار العرض مجازاً للكثير الذي قاله ميندوزا في ذلك الفيلم.

فيلم «سوي كاوبوي» (أنا كابوي) ضمن عروض «نظرة ما» له أن يمضي نحو علاقة ملتبسة بين أميركي وتايلاندية، مقاربة يقدمها المخرج الانجليزي توماس كلاي للسياحة الجنسية في بانكوك، لكن بتجريبية عالية، واعتماد كامل على التجريب إن تعلق الأمر بالمراهنة على فيلم يتطابق مع الحياة، بمعنى أن فيلم «أنا كابوي» لا يقوم كلاي بتقطيع المشاهد سينمائياً بقدر ما يجعلها أقرب إلى الواقع، بمعنى مشاهد السائح الأميركي يمارس يومه كاملاً، هو البدين بافراط، العاجز جنسيا، والثري، وإلى جانبه فتاة تايلاندية ناعمة ورقيقة، وبكلمات أخرى فإن كل ما نراه أمامنا يكون بالتفصيل الممل. وعليه تمضي أحداث الفيلم ببطء شديد لتضيء للمشاهد قسوة تلك العلاقة، وضرورتها بالنسبة للفتاة لتؤمّن الخبز لأهلها.  كل ذلك يقدم بحصافة واصرار على تأكيد كل شيء، عالم ذاك الأميركي الثري، وعالم تلك الفتاة التايلاندية الفقيرة، لا يجمعهما شيء إلا الجنس الذي يمارسه معها الأميركي بالاستعانة بـ «الفياغرا» ، والمال الذي كل ما تريده التايلاندية من الأميركي.   
تويتر