العالم يتجه نحو «اللاقطبية» في القرن الـ21


ريتشارد هاس *

 في القرن الـ21 لن تسيطر على العالم دولة واحدة أو اثنتان او حتى عدد من الدول، وإنما سيظهر على السطح عشرات اللاعبين الذين يمتلكون مختلف انواع القوى ويمارسونها. وإذا ما رجعنا إلى الوراء نجد أن القرن الـ20 بدأ بعالم متعدد الاقطاب، ثم ظهر الى الوجود عالم ثنائي القطبية بعد 50 عاما تخللتها حربان عالميتان وبعض الصراعات الصغيرة. ومع نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، بقيت قوة واحدة مسيطرة على العالم، وهي الولايات المتحدة الاميركية. الا ان القوة والنفوذ هذه الأيام بدآ يتوزعان بين دول العالم. ويثير اضمحلال نفوذ القطب الواحد عددا من الاسئلة المهمة تتمحور حول: الاختلاف بين  اللاقطبية والانماط الاخرى من النظام العالمي، ومتى وكيف استطاع هذا النظام ان يتبلور؟ وما الذي سيتمخض عنه هذا النظام الجديد؟ وكيف ستتجاوب الولايات المتحدة بشأنه مع الدول ذات النفوذ ؟

 

نظام عالمي أكثر جدية

مقارنة بالعالم متعدد الاقطاب ـ الذي يتضمن أقطابا مميّزة أو تركيزات من القوى ـ فإن النظام العالمي اللاقطبي يتميّز بالعديد من المراكز ذات القوى المهمة. ففي هذا النظام لا تسيطر قوى بعينها على القوى الاخرى، وإلا أصبح نظاما يتصف بأحادية القطب، كما ان مراكز القوى المتعددة لا تدور حول قطبين، والا أصبح النظام ثنائي القطبية. ويتميّز النظام المتعدد الاقطاب بأنه تعاوني، ويتصف بتناغم القوى، حيث تتعاون فيه بعض القوى الرئيسة من أجل ارساء نظام اللعبة وقواعدها، وتفرض عقوبة على من ينتهك تلك الانظمة من القوى الاخرى، كما ان هذه القوى قد تكون اكثر تنافسا فيما بينها حول توازن القوى، او تلجأ  الى الصراع عند انهيار النظام الذي يحكمها.

 

يبدو العالم اليوم من الوهلة الاولى انه متعدد الاقطاب، تمثل فيه القوى العظمى كل من الصين والاتحاد الاوروبي والهند واليابان وروسيا والولايات المتحدة، حيث تضمّ هذه الدول في مجملها نصف سكان العالم، و75% من اجمالي الناتج المحلي، و80% من الانفاق العالمي على التسلح.  وربما كانت المظاهر خادعة في بعض الاحيان، فالعالم اليوم يختلف كليا عن وضعه عندما كان تحت القطبية الكلاسيكية المتعددة، فهناك العديد من مراكز القوى، وبعض هذه الاقطاب ليست دولا بمعنى الكلمة، وبالتأكيد فإن احد الملامح المميزة للنظام العالمي المعاصر، هو ان الدول فقدت احتكارها للقوة، وسيطرتها ايضا في بعض المجالات، فالدول تتعرض للتحدي من الاعلى من قبل المنظمات الاقليمية والدولية، ومن الادنى من الميليشيات، ومن الجوانب من عدد من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات، فالقوة الآن توجد في كثير من الايدي وفي عدة مناطق.

 

اضمحلال المركز

وفي هذا العالم ستظل الولايات المتحدة ولفترة طويلة اكبر قوة في العالم، حيث إنها تنفق اكثر من 500 مليار دولار على جيشها، واكثر من 700 مليار دولار، إذا ما ادرجنا العمليات العسكرية في افغانستان والعراق، وستتمتع بسطوة في الجو والبر والبحر. ويعدّ اقتصادها ـ الذي يتضمن ناتجا اجماليا محليا بقيمة 14 تريليون دولار ـ اكبر الاقتصادات العالمية على الاطلاق. وتعدّ الولايات المتحدة ايضا مصدرا اساسيا للثقافة (من خلال السينما)، والمعلومات والابتكارات. إلا انه يجب على القوة الاميركية ألا تنكر حقيقة الاضمحلال النسبي الذي يتعرض له مركز الولايات المتحدة في العالم، ومع هذا الاضمحلال النسبي في القوة، هناك ايضا اضمحلال مطلق في النفوذ والاستقلالية. ونجد ان نصيب اميركا من الواردات الدولية تدهور ليصل الى 15%، وعلى الرغم من ان اجمالي الناتج المحلي الاميركي يمثل 25% من مجمل الناتج الدولي، فإن هذه النسبة ستنكمش بالتأكيد على مر الزمن، اذا نظرنا الى الفارق بين معدل النموّ الحقيقي والمتوقع بين اميركا والعمالقة الآسيويين وكثير من الدول الاخرى، التي يتجاوز معدل النموّ في كثير منها ضعفين أو ثلاثة أضعاف معدل النموّ في الولايات المتحدة.

 

وليس اجمالي الناتج هو العامل الوحيد للتزحزح الاميركي عن السيادة الاقتصادية،  بل هناك عامل آخر يتمثل في صعود صناديق الثروة السيادية في دول مثل الصين والكويت وروسيا والمملكة العربية السعودية، الامارات العربية المتحدة. حيث تنمو هذه الصناديق بمعدل سنوي متوقع يبلغ ثلاثة تريليونات دولار، وتعدّ مصدرا للسيولة الضرورية للشركات الاميركية. من الناحية الاخرى تتصاعد اسواق المال الموازية وتستقطب الشركات بعيدا عن اسواق المال الاميركية، كما ان الدولار يشهد تدهورا مريعا امام اليورو والجنيه الاسترليني، ومن المحتمل ان تضعف قيمته ازاء العملات الآسيوية ايضا. وتحتفظ الآن معظم الدول باحتياطيات عملات بغير الدولار، ويتجه النفط للتسعير باليورو أو بسلة من العملات، اذا امكن، في خطوة من شأنها ان تترك الاقتصاد الاميركي اكثر عرضة للتضخم والازمات النقدية.

 

السيادة الاميركية تواجه التحدي ايضا، فيما يتعلق بالتأثير العسكري والدبلوماسي في العالم، حيث إن الانفاق العسكري الاميركي لا يتناسب تماما مع القوة العسكرية. وكشفت احداث 11 من سبتمبر، كيف ان انفاقا ضئيلا من قبل المهاجمين قد تسبب في خسائر بشرية ومادية هائلة. فالكثير من قطع الاسلحة الحديثة العالية التكلفة ليس بذات فائدة لا سيما في الصراعات الحديثة، والذي حلت فيه المناطق الحضرية ميدانا للمعركة بدلا عن الميادين التقليدية، ففي مثل هذه البيئات فإن عددا كبيرا من جنود يحملون اسلحة خفيفة، سيكونون في وضع افضل من العدد المحدود من الجنود الاميركيين العالي التدريب والجيدي التسليح.

 

 مسؤولية أميركا

كان كاتب العمود والمعلق التلفزيوني، تشارلس كراوثامر اكثر من مصيب، عندما كتب منذ عقدين تقريبا في  ـ هذه الصفحات نفسها ـ عما أسماه «لحظة القطب الواحد»، وكانت السيطرة الاميركية حقيقية في ذلك العهد، بيد ان هذه اللحظة لم تستمر سوى 15 او 20 عاما، وللحق نقول انها لحظة بالمقاييس التاريخية. وتنبأت النظرية التقليدية بأفول نجم القطبية الاحادية وظهور فجر العالم المتعدد الاقطاب.

 

هناك عدة اسباب لاضمحلال القطبية الاحادية، السبب يعود إلى عوامل تاريخية، حيث إن الدول تتطور، وتتطور بالتالي مواردها البشرية والمالية والتكنولوجية والتي تقودها لزيادة الانتاجية وبالتالي الى الرفاهية، والأمر نفسه ينطبق على المؤسسات والمنظمات، فمن المستحيل ايقاف ظهور قوى جديدة، ويعود ذلك إلى تزايد اعداد اللاعبين الذين بإمكانهم فرض نفوذهم الاقليمي والدولي. السبب الثاني يكمن في السياسة الاميركية، فقد عملت الولايات المتحدة على تسريع ظهور مراكز قوى بديلة في العالم، وأضعفت بذلك مركزها ازاءهم، فمنذ الصدمة النفطية الاولى في سبعينات القرن الماضي ازداد الاستهلاك الاميركي للنفط بنسبة 20%، والاهم من ذلك ان الاستيراد الاميركي لمنتجات النفط تجاوزت الضعف، وتضاعفت ايضا بسبب ذلك نسبة الاستهلاك. هذا النموّ في الطلب دفع بسعر النفط من 20 الى اكثر من 100 دولار للبرميل الواحد في اقل من عقد من الزمان، ولهذا فإن سياسة اميركا فيما يتعلق بالنفط قد ادت الى ظهور مراكز قوى رئيسة تتمثل في المصدرين للنفط والغاز.

 

لعبت السياسة الاقتصادية الاميركية ايضا دورا مهما في هذا الصدد، فقد تعرض الرئيس الاميركي السابق، ليندون جونسون، للانتقاد كونه يقاتل في فيتنام ويزيد من الانفاق الداخلي. ويخوض الرئيس جورج بوش، حربا مكلفة في افغانستان والعراق مما جعل الانفاق يزيد بمعدل 8% سنويا مع خفضه للضرائب. ولهذا السبب تدهور وضع الولايات المتحدة المالي من فائض بلغ 100 مليار دولار عام 2001 الى عجز وصل 250 مليار تقريبا عام .2007 وأدى ذلك بالتالي الى ضعف قيمة الدولار، وازدياد معدلات التضخم، وساعد على تركيز الثروة في مناطق اخرى من العالم.

 

التمدد الإمبريالي 

أسهمت حرب العراق ايضا في اضمحلال مركز الولايات المتحدة في العالم، حيث برهنت هذه الحرب على انها اكثر تكلفة مما كان متوقعا من الناحية العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، ومن الناحية البشرية ايضا. وقبل سنوات أكد المؤرخ باول كنيدي في اطروحته «التمدد الامبريالي» ان الولايات المتحدة ستضمحلّ اذا ما حاولت التمدد تماما كما كانت عليه الحال في الامبراطوريات القديمة.

وانطبقت هذه الاطروحة قبل فترة على الاتحاد السوفييتي، الا ان الولايات المتحدة وعلى الرغم من آلياتها التصحيحية وحراكها ليست محصنة ضد هذا الاضمحلال. وليس الامر بالبساطة التي نظن فيها ان الجيش الاميركي يحتاج الى جيل كامل ليتعافى من حرب العراق، بل ان الحقيقة هي ان الولايات المتحدة تفتقر إلى الارصدة العسكرية الكافية للاستمرار فيما تفعله الآن في العراق. السبب الأخير هو ان العولمة زادت من حجم التدفقات عبر الحدود لكل شيء وسرعتها وأهميتها، من الادوية الى البريد الكتروني الى تأثير غازات البيوت الخضراء، والبضائع المصنعة، وتدفق البشر، والارسال الاذاعي والتلفزيوني، والفيروسات الافتراضية والحقيقية والأسلحة.


*  كاتب أميركي شهير، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية

 

العولمة تعزز انعدام القطبية

تعزز العولمة انعدام القطبية في اتجاهين: اولا، ان العديد من التدفقات عبر الحدود تتم بمعزل عن سيطرة الحكومات ومن دون علمها، وبالتالي فإن العولمة تضعف من نفوذ القوى الرئيسة. ثانيا، التدفقات نفسها تعمل على تعزيز قدرات اللاعبين غير المنتمين إلى دولة، مثل مصدري الطاقة (الذين زادت ثرواتهم بشكل دراماتكي نظرا للأموال التي يجنونها من المستوردين) والإرهابيين(الذين يستخدمون الإنترنت لأغراض التجنيد والتدريب والبنوك الدولية لنقل مواردهم، ووسائل النقل الدولية لنقل الناس) والدول المارقة (التي يمكنها استغلال السوق الاسود والرمادي).

الأكثر مشاركة