زمن التنظيم القرائي الجميل

خليل قنديل

 

مازلت اذكر كيف طرق صديقي باب دار العائلة قبل منتصف الليل بقليل. في صيف مطلع سبعينات القرن الفائت. وما زلت اذكر صديقي الذي كان في أحد التنظيمات الثورية السرية الممنوعة وقتها في الأردن. كيف تلفت يمنة ويسارا وهو يناولني رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء ابي السعد النحس المتشائل»، للروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي. وهو يقول بصوت فيه إيقاع النبرة الارشادية لقائد الخلية السرية: «عليك يا صديقي أن تقرأها الليلة، وسأعود اليك كي آخذها منك في الغد وفي مثل هذا الوقت، لأن الرفاق بانتظار قراءة الرواية على أحر من الجمر».

ورغم السمنة الورقية نسبياً للرواية، فقد قرأتها في ليلة واحدة. وكنت عند وعد صديقي. هكذا كانت تبدو القراءة الابداعية مطاردة في ذاك الوقت لا في العاصمة الاردنية عمّان وحدها، بل في معظم العواصم العربية، ربما باستثناء بيروت. ومع أنّ أغلبنا لم يكن في ذلك الوقت يتبع تلك التنظيمات السرية، الا أننا كنا نكتفي كما يبدو بذاك الدور الافتدائي والقرباني في التعامل مع قراءات لروايات او مجموعات شعرية خارجة عن الطوع السياسي العربي. كان مجرد الإمساك بها أو تصفحها، والتمتع بتنشق رائحة اوراقها، ومراقبة بقايا عرق الاصابع الحانية التي سبقتنا في تصفح تلك الكتب، اصابع الرفاق والرفيقات، ومحاولة الامساك بذاك العناد القرائي النائم بين الأحرف المطبوعة التي كانت تنادد السلطة السياسية آنذاك.

مازلت اذكر كيف كنّا نتبادل بسرية موجعة كتابات لينين وماركس وغوركي وتراوتسكي ولوركا وبابلو نيرودا وغسان كنفاني ووالت وايتمن ونجيب سرور وبعض دواوين نزار قباني. وكيف كانت تلك القراءات تجمعنا في آخر الليل في ما يُمكن تسميته بالتنظيم القرائي.

ما زلت اذكر كيف كانت ارواحنا تعربد فرحا ونحن نتحلق حول جهاز التسجيل للاستماع الى القصائد الهجائية  والمهربة التي كان يطلقها الشاعر العراقي «مظفر النواب» ببحة صوته الفضائحية، تلك البحة التي كانت تجرح الواقع السياسي العربي وتعريه.

وقد كان ذاك التطامن القرائي يدفعنا الى الذهاب نحو بعض الكتب السياسية والفلسفية و الاقتصادية العصيّة على الفهم، ونحاول أن نقرأها. ونحن نعي بأن محاولة تصفحها سيكلفنا الكثير من الجهد المضني. وقد كان العديد منّا يتظاهر بأنه قرأ هذه الكتب وفهمها، مع انه في الأصل لم يفهمها. مثل كتاب «رأس المال» لـ«كارل ماركس» وكتاب «الوجود والعدم» للفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر».

أما بخصوص الجانب المضيء حقا في ذاك «التنظيم القرائي». فقد كان هناك ما يُشبه التكافل القرائي الذي كان يجعل الواحد منّا حينما يقرأ كتاباً مدهشاً، يستعجل في إتمامه، كي يحقق المتعة الجماعية في قراءة الكتاب. فما أن ينتهي الواحد منا من قراءة الكتاب حتى يبدأ بأخذ دورته القرائية بين الأصدقاء. وقد كان وقتها من العادي جداً أن يُعمم الواحد منّا على جميع اصدقاء تنظيم القراءة هذا بعدم الاقدام على شراء احد الكتب، ذلك لأن فلان قد اشتراه، وسيعمل على تمريره على الجميع حال الانتهاء من قراءته.
الآن وأنا أراقب هذه القراءة السرية عند المثقفين العرب عموماً، والتعامل مع الكتاب باعتباره حوزة سرية، أصاب بما يُشبه الغصّة التي تجعلني أُطلق زفير القهر والتحسر على زمن التنظيم القرائي الجميل.
 
  khaleilq@yahoo.com  
 
تويتر