«بلادي وإن جارت عليّ »

سامي الريامي

 
المال قد يعطيك الفرصة لامتلاك أفخم منزل في العالم، لكنه لا يمكن أن يعطيك راحة البال، تستطيع أن تشتري أغلى غرفة نوم، لكن لا يمكن أن تشتري النوم المريح.. هذه الأمور وأمور أخرى كثيرة عن أهمية الصحة والراحة النفسية، وعن الزهد، وخدعة المال الكبرى، كانت هي محور حديثنا أثناء التجول في شوارع وأسواق مدينة جوتنبرغ السويدية، ودائماً ما كنا نضرب المثل على محدودية أهمية المال في الحياة، بهذا الشعب، فالسويديون كما ذكرتُ أمس يملكون المال والرفاه، لكنهم شعب غير سعيد على الإطلاق، ويعانون من الملل والفراغ اللذين يدفعهما دفعاً إلى الانتحار.


نحمد الله تارة على أننا نعيش في منطقة حارة مشمسة، صحيح أننا «نحترق» صيفاً من شدة الحرارة، لكننا أفضل بكثير من غيرنا الذين يتمنون نار الشمس ولا ديمومة البرودة، ثم نعود فنحمد الله على الإسلام، فالانتحار جُرم كبير لا يُغتفر، ثم نحمد الله على كل شيء.

 

وبصراحة قضينا اليوم الأول والثاني ونحن نتندر على الشعب السويدي الذي يفضل الموت على البرد، ونتذكر دائماً عند أي موقف أن السويد هي أعلى دولة في العالم من حيث نسب الانتحار وبدواعي الملل والفراغ، ثم نستسلم للضحك لأكثر من ربع ساعة على عيشة هذا الشعب.

 

ولكن وبعد انقضاء الليلة الثالثة بدأنا نشعر بشيء غريب، إنه الملل، نعم شعور كئيب ومفزع بالملل، يبدأ النهار مبكراً جداً، وتستمر الشمس في الشروق حتى وعقارب ساعاتنا تشير إلى الثانية عشرة ليلاً بتوقيت الإمارات، ولكم أن تتخيلوا ما الذي يمكن أن يفعله الإنسان طوال هذا اليوم الطويل جداً.. جداً..


لم ندع شارعاً إلا وتجوّلنا فيه لأكثر من خمس مرات، ولا مقهى إلا وجلسنا عليه في اليوم الواحد ثلاث مرات، كما أننا نتناول أكثر من خمس وجبات بين خفيفة وثقيلة، ليس لأننا جياع، بل من أجل إضاعة الوقت، نتسمّر جالسين في «لوبي» الفندق لساعات طويلة دون أن تتحرك الشمس من مكانها.. بالفعل شيء غريب، ومنظر غريب، وشعور غريب.


التقينا طلبة «طب» من الإمارات صدفة في الفندق، هجمنا عليهم وسألناهم: «بالله عليكم ما الذي يمكن أن نفعله هنا لقتل الملل؟»، قالوا: «لا ندري». غيّرنا صيغة السؤال وقلنا لهم: «ماذا تفعلون أنتم؟ أين تذهبون؟»، قالوا: «مكان واحد.. نرجع إلى شقتنا للمذاكرة فقط لا غير!».


 يا سلام وماذا نفعل نحن؟ المؤتمر الذي نحضر جلساته ينتهي ظهراً، والشمس تغرب بعد منتصف ليل الإمارات، اكتشفنا أن أمامنا طريقان لا ثالث لهما، إما أن  نضطر لدراسة الطب خلال هذا الأسبوع، ونذاكر مع إخواننا الطلبة حتى نقتل الشعور بالملل، وإما أن نضطر لقتل أنفسنا مثل السويديين فنهزم الملل والفراغ إلى الأبد! لكننا مسلمون، وإذا سلكنا الطريق الثاني سنخسر الدنيا والآخرة، نعم ولكن حتى المسلمين ينتحرون في السويد، حيث يلجأ العديد من الإيرانيين والعراقيين والبوسنيين والعرب إلى الانتحار في مراكز اللجوء بعد أن تُرفض طلبات لجوئهم السياسي أو الإنساني، وحتى لا يتم إجبارهم على الرحيل ينتحرون، والبعض يتظاهر بالانتحار جلباً للشفقة والرحمة، حتى يبقى في موطن ينتحر مواطنوه الأصليون! هل عرفتم الآن قيمة الوطن، قيمة الإمارات، أدركنا بالفعل معنى «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة». 

 

reyami@emaratalyoum.com

تويتر