|
قد يبدو الجدار مجرد بناء عالٍ أو منخفض. وقد يبدو مجرد عازل بين منطقة وأخرى. ولكن ما هو أكثر أهمية من ذلك بكثير، هو أن هنالك جداراً حياً وآخر ميتاً!
فلننبش الذاكرة قليلاً.. قليلاً فقط، لكي نكتشف الكثير من الجدران التي يمكن وضعها في الخانتين.. من المؤكد أن المسألة لا تتعلق بوقوف الجدار أو انهياره، فلا يمكن القول مثلاً إن الجدار الصهيوني العازل هو جدار حي، لأنه ميت بالضرورة. والضرورة هنا هي تاريخية وجغرافية وثقافية، فبعد 60 سنة من القمع والتشريد والتقتيل والمقاومة والنضال الفلسطيني، لا يمكن أن نتخيل أن جداراً كهذا يدخل في دائرة الجدران الحية، حتى لو ظل واقفاً 60 سنة أخرى، ولنتذكر معاً جدار برلين الذي كان ميتاً منذ بنائه تاريخياً وجغرافياً وثقافياً!
وفي المقابل، فإن جدار سد مأرب الذي اختفى عن الأرض والخرائط، مازال حياً، تاريخياً وجغرافياً وثقافياً!
المسألة إذاً تتعلق بالبعد الذي يمثله الجدار.. برمزيته، لا بتكوينه وهندسته.. بحضارة أهله وثقافتهم، ومدى ما تنطوي عليه هذه الحضارة من قيم إنسانية نبيلة وسامية.
لنترك الماضي جانباً، ولنأتِ إلى الراهن، وإلى الجدران الكثيرة التي تملأ حياتنا اليومية. سنكتشف على الفور أن هنالك جدراناً حية وأخرى ميتة، مشيدة بين الناس وبين الثقافات والشعوب. بين الرغبة في الحياة الحرة وبين شهوة القتل والتدمير والحقد المجنون الذي انبنت عليه كيانات وثقافات عدة.
ثمة جدار المقاومة المشيّد بالدم وأشلاء الأطفال، وثمة جدار القتل والقمع والشر التاريخي!
وها هو الأمر يتعين الآن في أوضح صوره في ما يحدث في لبنان وفلسطين. فجدار المقاومة جدار حضاري لأنه يجسد توق الإنسان إلى الحرية والكرامة، بينما الجدار المقابل يجسد الهمجية والوحشية والاستبداد والظلم، أي أنه جدار يمثل التخلف، ويجسد الكراهية والبدائية البشرية..
هكذا تنقسم الجدران عبر التاريخ إلى قسمين. وهكذا تتعين ملامح الموت والحياة في أي جدار من خلال رمزيته وبعده وثقافة بانيه. وهكذا يتحول الجدار إلى كائن بشري تماماً، وإلا فما معنى هذا القصف الهستيري على جدران تهدمت منذ الغارة الأولى في غزة؟
ألا يعني هذا أن ثمة استهدافاً لبشر في الجدران المهشمة؟ ألا يعني هذا أن الجدار هنا قد تماهى مع صاحبه بثقافته وتاريخه وهويته وقيمه؟ وأن استمرار ضرب الجدار يعني محاولة مستميتة للقضاء على هذه الثقافة وهذا التاريخ وهذه القيم وهذه الهوية؟
الجدار إذاً هوية بامتياز. والجدار الحي هو الذي يجسد هوية حضارية، بينما يمثل الجدار الميت هوية عدوانية أو مخاتلة.
وإذا كان الجدار كائناً بشرياً حقيقياً، فهو بالضرورة يمتلك صفات الكائن كلها، من شموخ وشراسة ومحبة وبغض. فجدار طروادة لم يقم من أجل الحفاظ على هيلين، بل للحفاظ على الطرواديات أنفسهن، ولهذا لم تنجح جيوش أثينا في اقتحام ذلك الجدار، فتحايلت عليه.
والسؤال هو: كم من الجدران الحية مازالت قائمة؟ كثيرة جداً.. قيم الحب والعدالة والحرية التي نحتمي بها. أما جدران الموت، فيكفي أنها ميتة بالضرورة، ويكفي أنها بموتها ستطيح بثقافة الشر والطغيان والظلم والعدوان.
damra1953@yahoo.com
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
Share
فيسبوك
تويتر
لينكدين
Pin Interest
Whats App