المثقفـون والمخابـرات والمؤامـرات

بالتزامن مع جريدة السفير اللبنانية

يتعذّر تصور نقيضين أشد تباعداً من المثقف ورجل المخابرات، إلى حد أنه يمكن تعريف كل منهما بتقابله مع الآخر. المثقف رجل العلانية، الكشف والإظهار والعرض «وربما الاستعراض» من المألوف أن يقول إنه ينوي أن يكشف عن كذا، أو إنه اكتشف كذا، أو أظهر أو أثبت أو أبان أو عرض أو أوضح.

 

بالمقابل، شغل رجل المخابرات موجّه نحو السرية والخفاء والتكتم والحجب والكبت والقمع واحتكار المعلومات. المثقف يعلن كل ما يعرف، رجل المخابرات يكتم ما يعرف ويحجبه عن العموم.

 

وبينما قد يصاب المثقف بداء الاستعراض فإن الداء الذي قد يصاب به المخابراتي هو «الاستسرار»، أي إمساك المعلومات كغاية بحد ذاته، أو السرية للسرية.


 ومنذ عصر التنوير، قبل قرنين ونصف القرن، المثقف رجل نور، استعاراته تتصل بالنور والضوء والرؤية وكشف الأسرار وإظهار المحجوبات وتعرية الحقائق، فيما جماعة المخابرات رجال ظل وخفاء وأسرار وكتمان وتعتيم وتمويه، وصولاً إلى تعمد نشر معلومات غير صحيحة والقيام بـ«عمليات قذرة».

 

هنا ينتقلون من الحجب السلبي إلى الحجب الفاعل والتشويش. لا تكتسب معارف المثقف قيمة إن لم تطرح في المجال العام، أي أمام أنظار الجميع، فيما تفقد معلومات رجل السلطة السري كل قيمة إن جرى تداولها في المجال العام. يريد المخابراتي أن يكون كل شيء مكشوفاً أمامه، ولو بالعنف. هو وحده غير مكشوف. أما المثقف فيريد أن يكشف كل شيء، لكن دون عنف، ودون إخفاء نفسه. لكن في الحالين ثمة رباط بين الأمن بالمعرفة. المثقف يأمن إذا عرف ونزع الغرابة والخفاء عما يدرس، وإذا عُرف ايضا.

 

والمخابراتي يأمن إن عرف ونزع السر عما هو محجوب عنه، واحتكر المعرفة لنفسه. لكن معرفة الأول غاية بذاتها، فيما غاية معرفة الثاني هي السلطة. وأمن المثقف قابل للتعميم في مجتمعه أو في مجتمع البشر ككل. فيما أمن رجل السلطة خاص، مشروط بنزع أمن آخرين. ولأن المعرفة أداتية عند رجل المخابرات فإنها ترتد إلى معلومات.

 

والعالم عنده لا يتوحّد إلا كموضوع للسلطة، فإن كانت معرفة المخابرات مصدرنا الأوحد لمعرفة العالم تكوّنت لدينا صورة عن عالم مفتت، متناثر، لا يتماسك دون سلطة فوقه.
تزييف العالم
على أن الفارق الأهم بين الثقافة العالمة والمخابرات هو في النظرة إلى العالم. يعتقد المثقف أن العالم قابل للشرح، أنه ليست ثمة أسرار جذرية فيه، فإننا نستطيع معرفة العالم وإتاحة هذه المعرفة لجميع الناس. العالم ممكن الشفافية في عين المثقف.

 

هو أيضاً عالم غير مخاتل، لا يتعمد تضليلنا، وما من أبواب موصدة دون «أسراره». رجل المخابرات، بالمقابل، لا يكتفي بحجب معلومات، بل ينتج معلومات مزوّرة، يعطي صورة غير حقيقية عن الأشياء. يفعل شيئا ويخفيه، أو ينسبه إلى غيره.
يضع جواسيس في وسط من يعتبرهم خصومه، يضلل، ويخاتل. يتآمر. ويقتل. ومقياس أمنه أن يتجسس الصديق على صديقه. الصداقة مثل الضمير عقبة يوجب المخابراتي على نفسه أن يتغلب عليها.

 

وليس ثمة ما يثبت أنه لا ينجح في إخفاء أفعاله، أو في تقديم صـورة غير حقيـقية عن الواقع.  المثقف ينتقد «نظرية المؤامرة»، لأنه مثقف، لأن تعريفه كمثقف يتعارض مع التسليم بعالم مخاتل، فيه مناطق عتمة واعية، أي تراوغ جهودنا لإضاءتها، وتحركه إرادات مغرضة تتعمد تضليلنا. 

 

نشأ المثقف أصلا ضد السحر وعقائد الأسرار والمعجزات وكل أنواع الظلاميات والإرادات النزوية المتعالية، المنسوبة للجن أو العفاريت أو الملائكة أو الآلهة.

 

لكن ما كان يخطر بالبال أن البشر الذين هتكوا «أسرار الطبيعة» وتمكنوا من «نزع السحر عن وجه العالم» وطردوا الجن والأرواح الخفية منه، سوف يفخخون العالم بأسرار من صنعهم ويبثون فيه أشباحا، وينشرون فيه ظلمات يعسر تبديدها، وقد يورد كشفها إلى المنايا. هل لدينا أسباب للاعتقاد بأن المخابرات والمؤامرات تخرب العالم اليوم أكثر مما كانت تفعل قبل 20 أو 50 أو 100 عام؟ هذا ما نشعر به.

 

 عالم اليوم فيه أسرار ومؤامرات كثيرة. وفيه فوارق في المعرفة والتطور التقني والقدرة المالية تتيح للبعض التلاعب بغيرهم وتعمد تشويش مداركهم، وفبركة «وقائع» وتصنيع «حقائق»، مع احتمال ألا ينجح المتلاعب بهم بكشف ذلك أبدا. أي إننا نغدو موضوعا منفعلا، فتتدنى حريتنا وإنسانيتنا، وتتراجع سيطرتنا على شروط حياتنا إلى درجة مقلقة. وفي «الشرق الأوسط»، المنطقة التي قد تكون عشّ دبابير المخابرات في العالم أجمع، مخابرات الأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين والحكومات العربية..

 

المنطقة التي ترمى شعوبها بأنها أسيرة نظرية المؤامرة، كيف يستطيع المثقف أن يقف عند صورة العالم بوصفه قابلية أكيدة للشرح والشفافية؟ من يضمن أن ما نعرفه ليس شيئا صنع خصصوصاً من أجلنا؟ عرضاً لجوهر من صنع بشري؟ كأن علاقتنا بالغرب تغدو ميتافيزيقية.

 

 كأن الغرب الذي لطالما جهد للتخلص من الميتافيزيقا نجح أخيراً في طردها إلينا.  وفي بلادنا، حيث تتفوق المخابرات على الجان والعفاريت، وحيث ينتشر الاشتباه، وليس دونما أساس دوماً، بأن وقائع الأمور ليس كظواهرها، كيف لنا أن نتيقن من أننا نعرف؟ أو أن ما نعرفه هو الأشياء المهمة؟ وما الآثار المحتملة لذلك على مستقبل الثقافة والمعرفة؟ وكيف يكون التنوير حين تكون المخابرات وأهلها مصدراً رئيـساً للتعتيم؟ وحين تكون الحياة مهـددة ومشـوهة وملعوباً بها، هل يـبقى للمعرفة أي مفعول أمنـي؟ وهل تبقى معـرفة أصلاً؟ 

تويتر