«ملح هذا البحر».. يسطو على الذاكرة والروح
|
|
سهير الحماد وصالح بكري في لقطة من «ملح هذا البحر». موقع «آوت ناو»
للبحر أن يكون مالحاً لا محالة، لكن هناك ملوحة بعينها يتوق الملايين حول العالم ليذوقوا طعمها، أن يستعيدوا ما تستدعيه من تاريخ وذكريات ومآسٍ، وهذا هو تماماً ما يمكن لعنوان فيلم المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر «ملح هذا البحر» أن يستدعيه عبر البناء حول العودة المؤقتة، مع الأمل بعودة دائمة لها أن تجد بملوحة البحر طعماً يستحق أن تذلل كل الصعاب لملامسته.
عرض الفيلم في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» ضمن عروض «نظرة ما»، وجاء بتوقيت استعادي لذكرى النكبة، لدرجة كان حضور تلك المأساة طاغياً أثناء عرض الفيلم، وقد ارتدى كل من كان على خشبة المسرح الكوفية الفلسطينية قبل عرضه، كما أن جهات كثيرة ساهمت في إنتاجه بمن فيهم الممثل الأميركي داني غلوفر، وليأتي الفيلم بما يمكن وصفه بإضاءة واضحة وصريحة لما حل بشعب بإكمله اعتباراً من عام 1948، ولعل بداية الفيلم جاءت كتلخيص للكلمات التي ألقيت قبل عرضه، إذ إن المشاهدين كانوا على الفور أمام صور وثائقية للتهجير وهدم المنازل الذي طال الفلسطينيين ومازال، ولنمضي بعد ذلك مع حكاية الفيلم التي لها بشكل أو آخر أن تكون سيرة جاسر الشخصية، كونها مثل بطلة فيلمها ثريا (سهير الحماد) تعيش في بروكلين، وعادت إلى فلسطين محملة بذكريات جدها، وعينها على أن تعاين ما عاشت عليه وشكل كل وعيها وذكرياتها، وأن ترى ما بقي في المخيلة والذكريات، أن ترى فلسطين التي تحاصر حياتها دون أن تكون قد رأتها من قبل.
منذ البداية تتعرض ثريا لتفتيش وإجراءات أمنية مبالغ بها، لمجرد اكتشاف رجال الأمن الإسرائيليين أنها من أصول فلسطينية، وبعد تكرار التحقيق معها إلى ما لا نهاية تمنح إقامة لمدة أسبوعين فقط، ولتكون هذه المدة كفيلة بأن تقع بحب عماد (صالح بكري)، ومقاربة فلسطين التاريخية عبر وجهتي نظر متعارضتين ومتناغمتين في آن معاً، فعماد يائس تماماً ولا يطمح إلا إلى الهجرة ومفارقة هذه الأرض، ولكنه مرفوض دائماً من قبل السفارة الكندية، بينما ثريا تحتفي بكل شيء، ترغب بأن تبقى في غزة، طبعاً مازال الفيلم إلى الآن في مناطق السلطة الفلسطينية، لكنها أي ثريا ترغب بأن تزور يافا، أن تلامس حجارة بيت جدها، الذي كان يسبح يومياً في البحر الذي يطل عليه، كما أننا نجدها تطالب «البنك البريطاني الفلسطيني» برصيده الذي تركه خلفه حين هجر.
كل شيء في الفيلم يمضي إلى غايته، وكل ما نشاهده يوضح بقوة الهوية الفلسطينية، أزمتها بين الداخل والخارج، والمعاناة اليومية للشعب الفلسطيني، ومع رغبة ثريا الذهاب إلى يافا، واصرارها على استعادة ميراث جدها من البنك، يشهد الفيلم انعطافة درامية، ليس لي بشكل أو آخر أن أتعاطف معها، ولا يمكن إلاّ أن تكون صاعقة ضمن السياق الإنساني للفيلم، فثريا تقنع عماد وصديقاً له، بالسطو على البنك واستعادة المبلغ المحدد الذي يدين به البنك لجدها، ولتضيف إليه ثريا مبلغاً آخر، لتعطي كلاً من عماد وصديقه إياه، لنشاهدهم بعد ذلك يهربون إلى داخل ما يعرف باسرائيل حالياً، وهناك يعيشون لحظات منفلتة من الزمن، وحرية التمتع بفلسطين التي لا يعرفها أيضاً عماد وصديقه، يزورون القدس، يتجولون في شوارعها، ينعمون ببحر يافا، يسبحون في مياهه، ويلامس ملحه أجسادهم، وبالتالي تزور ثريا بيت جدها، حيث تكون المستوطنة التي تشغله متعاطفة معها فتقبل أن يبيتوا عندها، لكن ثريا تشتعل غضباً بعد ذلك، وتكتشف بأن حقها في هذا البيت حقيقة صارخة في وجهها، وتبدأ بالصراخ في وجه المستوطنة وسؤالها أن تغادره، ليقوم عماد بإخراجها من البيت، إذ إن المستوطنة تطلب لها الشرطة، وهم جميعاً دخلوا إلى يافا بأوراق مزورة، وسيارة ذات لوحات مزورة أيضاً. قبل وصول النهاية التي تكون باعتقال عماد، وتسفير ثريا إلى أميركا، والتي تبقى مصرة على أن مكان ولادتها يافا وليس بروكلين، قبل تلك النهاية يأخذ عماد ثريا إلى قريته «الدوايمة» المهجر منها، ليجدها خربة، وأثراً بعد عين، وليستقرا في بيت متداعٍ يقرران العيش فيه إلى ما لا نهاية، ليبدو الأمر بعد تمضيتهما شبه مستحيل، ولعل تلك المرحلة من الفيلم هي الأجمل، حيث تمتزج رغبة البقاء على الأرض التي هجرا منها، مع الحب، مع السكينة والعزلة التي لا تستمر طويلاً، إذ يكفي مرور مستوطن اسرائيلي ليتزعزع كل ما تقدم. فيلم «ملح هذا البحر» مأخوذ بالذاكرة والعودة، يهجس بمقاربة فلسطين التاريخية عبر زاويتي رؤية: الأولى من الخارج والأخرى من الداخل، وكلاهما ممنوعتان من مقاربة ما يسكن روحهما، دون إيلاء كثير اهتمام بأداء سهير الحماد العناية التي تبني مع المشاهد حالة من الانسجام مع ارتجالية أدائها، على عكس صالح بكري، مضافاً إلى ذلك الاتكاء على حادثة السطو على البنك لدخول الأراضي المحتلة بتصاريح، وعلى شيء من التركيبة المرتجلة أيضاً، للوصول إلى مقولات الفيلم رغم انتمائه للسيرة الذاتية، النقطة الأهم في الفيلم دون الوقوع بمطب المباشرة، عدا حوارات قليلة. |